``تأخرت يا صديقي``: هل تغذت المؤامرة بالأسد قبل أن يتعشى بها؟

حمص- الأربعاء 1 أغسطس (تموز) 2012 /بان اورينت نيوز/

بقلم أحمد علي

كان الوقت عديم الملامح، بدت الأبنية وكأنها مشوهة، الطرقات معوجة متشابكة تنتهي إلى اللا مكان ولون السماء مصفر. الشوارع خالية إلا من بعض المارة يهرولون إلى منازلهم وبضعة سيارات تسابق الطرقات والزمن. وقفتُ أنظر من الشرفة نحو المجهول بشعور من يودع مرحلة آمنة ويعيش لحظة فاصلة في تاريخ هذا البلد.

سارع الكثير ممن يعيشون في دمشق من أهل الساحل وبعض الداخل إلى مغادرة العاصمة عائدين إلى مواطنهم الأصلية وكأنهم دخلاء عليها أو لا ينتمون إليها أو أنهم مذنبون بشيء ما. انتابهم الجزع والخوف من القادم. شعروا كما لو أنهم سيتحملون وزر غيرهم من النظام الأمني الذي قمع الحريات وكم الأفواه ومارس الفساد والإفساد على مدى عشرات السنين.

كان ذلك في أعقاب الإعلان الرسمي المفاجئ عن رحيل حافظ الأسد. عاشت البلاد لحظات صمت مرعب. لم يكن أحد مهيأ لتلك اللحظة. الكل كان يعرف أنه مريض، لكن أحداً لم يتوقع وفاته في ذلك الوقت إلا قلة قليلة من الحاشية. عيون حائرة، قلوب وجلة، فرائص مرتعدة، البعض حزين، والبعض سعيد مع كثير من القلق وترقب للمجهول. ما الذي كان سيحدث؟؟

لماذا تشعر الطائفة العلوية بالذعر وبأنها مستهدفة؟ ومن عزز هذا الإحساس لدى أتباعها؟ سؤال برسم الجميع وخصوصاً من حَكَمَ البلاد طويلاً وبعض المعارضة التي وقعت في الفخ الطائفي وبعضها الآخر مارس الحالة الطائفية عن قناعة وإيمان. والسؤال برسم الفضائيات الدينية المتطرفة التي رفعت شعار "الدم السنّي واحد."

ومؤخراً جداً، ألم يقل رياض الترك (الشيوعي السابق) عن عبد العزيز الخير، الذي قضى 17 عشر سنة كسجين سياسي، إنه "في النهاية يبقى علوي." وكذلك فعلتْ رنا قباني ابنة شقيق الرائع نزار قباني، عندما اعترضتْ على إسناد دور شخصية الشاعر نزار في مسلسل "نزار قباني" للمثل المميز تيم حسن، قائلة "لا يجوز أن يمثل شخصية نزار شخص من الساحل". من هو ابن الساحل؟!!. فلا عتب على المتطرفين أو المغالين والمتشددين الدينيين أو الطائفيين.

كانت الوفاة الطبيعية لهذا الرجل "العابر للطوائف"، كما وصفه الدكتور غسان سلامة في تقريره كمراسل لإذاعة مونت كارلو آنذاك، بعد وقت قصير من إعلان وفاة حافظ الأسد، فرصة تاريخية لتعزيز الوحدة الوطنية التي عاشها الشعب بكل أطيافه برغم كل ما حدث من شروخ خلال فترة حكمه، خصوصاً خلال فترة النزاع المسلح مع جماعة الأخوان المسلمين في الثمانينيات.

كانت وفاته فرصة لانتقال سلس للسلطة المحسوبة نظرياً على طائفته، التي تشكل أقلية في البلاد، وهي التي عانت مثل، إن لم يكن أكثر من، غيرها من الفقر والظلم والقهر. ويشهد على ذلك واقع قرى وأحياء هذه الطائفة وعدد السجناء السياسيين من تلك الطائفة الذين وصلت أحكام بعضهم إلى أكثر من عشرين سنة.

كانت وفاته الطبيعية فرصة تاريخية لإنقاذ البلد (والطائفة، هذا إذا كانت مهددة أصلاً) وبالتالي كافة الطوائف من جحيم ما قد يحصل مستقبلاً. كان تطبيق الدستور كفيلاً بحل أزمة غياب الرئيس، بانتقال السلطة إلى نائبه، الذي يمثل الطائفة الأكثرية في البلاد، لا لشيء أكثر مما يتضمنه جواب محتمل على سؤال: هل الأقلية قادرة على تحقيق الديمقراطية، تلك الكذبة الأكبر في التاريخ، في أي بلد يسود وينتشر فيه الفكر الديني والمذهبي كالنار في الهشيم...؟

ولكن بدا وكأن ما من أزمة في البلاد! فقد تم الاتفاق على تنصيب رئيس جديد، إنه نجل الرئيس. فعدلوا الدستور لهذا الغرض وبدعم من رموز السنة – مثل مصطفى طلاس وزير الدفاع آنذاك ابن مدينة الرستن التي كان يُطلق عليها "قرداحة حمص". وكان ما كان: استقامت الطرق، انتصبت الأبنية غير مشوهة وعادت للسماء زرقتها وراقت العيون، وهدأت الفرائص، والحزين على رحيل الرئيس الأب أصبح سعيداً والسعيد برحيله أضحى لا مبالياً وزال القلق واتضح المجهول، ودبت الحياة في الشوارع.

هتف "الجميع" تقريباً بحياة الرئيس الجديد، كيف لا وقد بدأ يستدرك ما فات والده الراحل. وعد بأن تكون البلاد درة المنطقة، انفتح على العالم بطريقة تعد بمستقبل زاهر، انفتح على شعبه بشفافية، يلتقيهم برفقة أفراد عائلته بشكل مفاجئ في المطاعم والكثير من الأماكن العامة في حالة من الأمان يحسده العالم كله عليه. وعد بمحاربة الفساد وتحسين مستوى المعيشة، والحريات وكان ما سمي آنذاك "ربيع دمشق" الذي ومع الأسف لم يزهر إلا ليبراليين جدد وشكلاً أكثر تطوراً من أشكال الفساد والإفساد.... تعاقبت الحكومات وكلها دون استثناء ركزت على تحرير الاقتصاد والانفتاح على الغرب بشكل أساسي دون مراعاة لطبيعة البنية الاقتصادية والاجتماعية لمجتمع تنخره البطالة وتسوده حالة من السأم واليأس من الشعارات الطنانة، ومن الكذب الواضح والصريح لبعض كبار المسؤولين في تلك الحكومات، وعلى وجه الخصوص وزير المالية محمد الحسين وعصام الدردري نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية في حكومة ناجي العطري. وكذلك محافظ حمص إياد غزال الذي كان يطلق عليه أهالي حمص عموماً وسكان مركز المدينة خصوصاً لقب "الوالي العثماني" لما كان يفرضه من ضرائب أشبه بالإتاوات، لدرجة أن النظام الضريبي في حمص اختلف عن باقي المحافظات. ولم تكن الحكومات السابقة بأفضل حال.

والسؤال هنا، أما كان للرئيس الشاب الجديد أن ينقذ البلاد من كذبة ما يسمى "الربيع العربي" لو أنه فعل في العام الأول من حكمه ما فعله الآن - خلال الأزمة - من إصلاحات حيث أطلق الحريات وأصدر قانوناً للأحزاب وآخر للإعلام وقانوناً جديداً للانتخابات العامة وتوّج ذلك في العام الثاني أو الثالث بإصدار دستور جديد يضع سقفاً لمدة حكم الرئيس لدورتين فقط مدة الواحدة سبع سنوات بعد انتخابات رئاسية متعددة حكماً، وبالتالي اختفاء شعار "إلى الأبد" إلى الأبد؟

أما كان ذلك، لو تم مبكراً، كفيلاً بسحب الذرائع من المعارضة والقوى الخارجية وتلافي اللازمة التي ما فتئوا يرددونها تهكماً "تأخرت يا صديقي*" وفات الأوان؟ لطالما رفضت المعارضة كل تلك الإصلاحات وترفض بتعنت أي شكل من الحوار قبل تنحي الرئيس وكل رموز النظام.

وهنا لا بد من الإشارة أن المعارضة وبهذا الشرط المسبق اللاواقعي منذ بداية الحراك الشعبي، تطيح بأية فرصة لحل سلمي. لماذا الحوار إذا كان هناك شرط مسبق كهذا.؟ من ستحاور؟ لماذا لا تقبل المعارضة الحوار وتحرج النظام إذا لم يستجب إلى الحقوق المشروعة؟

عندما دعت الحكومة إلى الحوار بعد وقت ليس بطويل من بداية الأزمة، كان حري برموز المعارضة في الخارج أن يأتوا جميعاً بطائرة واحدة إلى مطار دمشق الدولي بعد إبلاغ كافة المنظمات الحقوقية والإنسانية والقوى الكبرى بقدومهم من أجل الحوار، حتى لو تعرضوا للاعتقال، ولا أظن أن النظام غبي لدرجة أن يقدم على هذه الخطوة في هذه الظروف. لو فعلوا ذلك لكسبوا تأييداً شعبياً هائلاً ولأحرجوا النظام بقبولهم الجلوس على طاولة الحوار ليساهموا على الأقل بدور نبيل لوقف سفك الدم السوري والحفاظ على وحدة التراب السوري. أم أن الرهان الغبي على التدخل الخارجي السريع اقتداء بما حصل في بعض دول "الربيع العربي،" مثل ليبيا، هو الذي دفع المعارضة إلى التمترس وراء شعار "لا للحوار" وهم يعلمون علم اليقين أن النظام لن يستسلم بهذه السهولة.

وباستخدام المعارضة للسلاح اكتسب استخدام العنف من قبل النظام صفة شرعية وأصبحت المعارضة مسؤولة أخلاقياً ومادياً عن سفك الدم السوري وما آلت إليه الأمور من تدهور.

ويبدو أن المعارضة السورية، وخصوصاً المسلحة منها، لم تقرأ التاريخ لتستقي الدروس من المهاتما غاندي الذي حرر الهند من الاستعمار البريطاني بالكلمة. وينبغي أن تعلم، والنظام من قبلها، أنه لا يوجد نظام في العالم يستطيع أن يقف في وجه الحراك الشعبي السلمي، السلمي حصراً، مهما استخدم من عنف.

* (تأخرت يا صديقي" مسرحية للكاتب غريغوري غورين من إعداد الكاتب المسرحي الحمصي فرحان بلبل)

الصورة: سيارة اسعاف تضررت من العنف في حمص

أحمد علي كاتب صحفي سوري



رأي