المجالس أمانات عند العرب واليابانيين

مدريد – الثلاثاء 28 فبراير 2012
بقلم الأديب محمد علي بشير كردي
خاص لوكالة بان اورينت نيوز

في لقاء رشا والصديق الياباني على شاشة الإنترنت ، كانت مآسي الحروب وتداعياتها محور الحديث. تُقدِّر رشا أن عَددْ الأَرامل واليتامى والمشردين والفاقدين لأراضيهم ولمصدر رزقهم في أقدم مناطق العالم رقيِّاً وحضارةً وهي بلدان المشرق العربي وما جاورها قد تجاوز الملايين العشرة. وأن من أخطر آثار هذه التداعيات ضياع الأسرة، واضمحلال القيم التي نشأ عليها المجتمع.

فالمرأة العربية حُرَّةٌ كما هو مشهود لها "تَجوعُ ولا تأْكل بثدييها"، فإذا ببعض منهن اليوم يُرْغَمْنَ على التنازل عن الشرف والعفاف في سبيل لُقمةٍ يَطْلُبْنها بخفرٍ وعلى استحياء ليُشْبعن الأفواه الجائعة. ناهيك عن أطفال الشوارع وقد ضاع حسبهم ونسبهم، تُسخِّرهم عصابات الإجرام ونشر الرذيلة لإفساد المجتمع.

وتتساءل عن الحلول الناجعة لوقف تردي هذه الأحوال وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أجل ترابط الأسرة وكرامة الأمة، وعما إذا كانت اليابان في حروبها العديدة التي خاضتها داخل اليابان وخارجه، قَبْلَ وبَعْدَ عهد الإمبراطور المصلح ميجي، قد تعرضت لمثل هذه الحالات، وكيف تمكنت من صدِّها والقضاء على تداعياتها.

أجاب الصديق، بابتسامته المميَّزة، بأن الحروب بدأت بين أفراد الأسرة الواحدة منذ بدء الخليقة، ولا يزال هذا الصراع قائما، وسيستمر إلى ما شاء الله، ولَجْمُه والتخفيف من آثاره يتطلب الإيمان بأن الوطن هو الأول الذي يستحق بذل الحياة رخيصة في سبيل عزته وكرامته، فالإيمان بالله يتطلب الإيمان بالوطن، وعلى المواطنين تقبل تداعيات الكوارث السلبية بقدر كبير من الشجاعة، لتعاد الثقة بالنفس إلى من كاد أن يفقدها.

وهذا يتطلب تعاون المجتمع في احتواء المتضررين وفق الأعراف والتقاليد، لا تجاهلهم أو إقصاءهم عن مجتمعهم، فما من مخلوق يقبل طواعية أن ينحدر إلى الهاوية ويستقر في قاعها.

وفي تراث العرب أيام زمان، كانت الحروب القبلية المعروفة بالغارات من الأمور المألوفة وخلدتها المعلقات الشعرية، وكانت النساء يؤخذن سبايا ليقمن في بيوت الموسرين، ومن كان لديهن موهبة الفنون الجميلة من أدب وشعر وموسيقى تهيأت لهن فرص التدريب والتأهيل فصعد نجمهن وذاع صيتهن، ومن راقت منهن لسيد القصر ضمَّها إلى سريره، فإذا أنجبت له تحولت إلى زوجة.

وفي سجل السلاطين والخلفاء الكثير ممن ولدوا من جوار وسبايا، وكان لوالداتهم المكانة والحظوة الرفيعتين، أما الأطفال فكانوا يرسلون إلى مدارس عسكرية خاصة تؤهلهم لحراسة الحاكم، كما أن في قرآنكم الكريم توجيه برعاية اليتامى وحفظ حقوقهن، والترغيب بالزواج منهن مثنى وثلاث ورباع لتتوفر لهن ولأطفالهن الحياة التي فقدنها بفقد عائلهن.

عندنا في اليابان، تُرك للمرأة اختيار ما يناسبها من عمل لتنشئة أطفالها، واستوعبت الثورة الصناعية غالبية الأرامل واليتامى من الجنسين.

وإلى عهد الإمبراطور المصلح ميجي كان لوجهاء القوم ما لمثيلهم من غير اليابانيين من حب اقتناء النساء والاستمتاع بهن، وكانت الصغيرات من المشردات واليتامى يدخلن بيوت الجيشا للتدرب على شتى فنون الترفيه ومعرفة آداب التراث وإجادة اللغة نثرا وشعرا وإلقاء، والعزف على الآلات الموسيقية وما يتبعه من رقص وغناء لتؤانس عند نضج أنوثتها من تولى الصرف عليها ولتجامل ضيوفه وتكون بيت أسراره، فهي حاضرة عندما يلتق بأصدقائه وخلانه، وعندما يجتمع برجال الأعمال والسياسة، تسمع ما يقال ولا تشارك فيه، ولا سبيل إلى نقلها هذه الأسرار خارج بيت الجيشا الذي تقيم داخله بصفة دائمة، في حين لو أن زوجته أو قريبته حضرت مثل تلك الجلسات وسمعت ما يدور فيها من حديث وما يعقد حول المائدة من صفقات لن يكون هناك ما يضمن حفظ ما دار في المجالس من أحاديث وما عقد من صفقات، والمجالس في قول أهل المشرق العربي أمانات، وقد انتهى عصر بيوت الجيشا مع إقرار دستور 1945 وقامت بديلا عنه معاهد لتدريب الفتيات على هذا النوع من الفنون الجميلة حفاظا على التراث الأدبي والفني.

أمَّنتْ رشا على كلام الصديق الياباني وعرضت عليه عبر الشاشة صورتين فوتوغرافيتين انتشرتا سريعا على شبكة الإنترنت تبرز تصرف القوات العسكرية وقت الأزمات في بلدين آسيويين. الأولى من اليابان وقت كارثة التسونامي والزلزال المدمر وهي لجنود أقاموا من أجسادهم جسراً لعبور الأطفال والنساء والمتقدمين في العمر، والثانية من بلد عربي للأسف استخدم فيه جنود الحاكم جزمهم العسكرية وأعقاب بنادقهم ليهينوا مواطنا أعزلا، كل جريمته طلبه من الحاكم المستبد أن يرحل ليريح ويرتاح.

وأنهت رشا المقابلة بدمعة حزن وهي تردد قوله تعالى: ولقد كرمنا بني آدم، والحديث النبوي الشريف: إنما النساء شقائق الرجال، ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم.

محمّد بشير علي كردي أديب وسفير سابق للمملكة العربية السعودية في اليابان

بان اورينت نيوز


نيرون الثاني: يوليو. 21


البيئة والمجتمع