إِنَّ الَّذي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرْآنَ لَرَادَّكَ إِلَى مِعَادٍ``
مدريد – الإثنين 28 يناير 2013
بقلم محمَّد بشير علي كردي
"إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرْآنَ لَرَادَّكَ إِلَى مِعَادٍ". آية قرآنيَّة كريمة، ردَّدتها بدموع انهمرت بسخاء وأنا أصعد سلَّم الطائرة عائدًا إلى مدريد بعد أربعة أسابيع قضيت ساعاتها وأيَّامها بالتمام والكمال متنقِّلاً ما بين مكَّة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة وجدَّة والرياض مجِّددًا العهد والصلات بالأسرة وبمَن أسعفني الوقت للقائهم من الأهل والصحب والأحباب.
مرَّت الأسابيع الأربعة كأربع ساعات. يبدو أنَّ مسيرة العمر ككتلة الثلج التي تعصف بها الرياح، فتزيد من حجمها ومن سرعتها وهي تتدحرج من علوٍّ. لمَّا كنَّا صغارًا، كانت دقائق الحصَّة الدراسيَّة تمر ببطء شديد والنهار طويل لا تنتهي ساعاته، وكذا الأيَّام والأسابيع. ومع التقدُّم في العمر، أخذ الزمن يمرُّ بسرعة وكأنَّه يستعجل إيصالنا إلى يوم الحقِّ، وهذه سنَّة الحياة.
تمتَّعت في رحاب الحرمين الشريفين بصفاء الروح والطمأنينة ممَّا أتاح لي فرصة الاسترسال في الدعاء لكلِّ مَن أوصاني، ولأهلي وعشيرتي وبني وطني من أمَّة العرب والمسلمين. فحال الأمَّة اليوم لا نُحسد عليه، ويتطلَّب مع الدعاء وقفة مع الضمير لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من كرامة وأرض وتراث، ومدَّ يد العون والإنقاذ لِمَن وضعتهم الأقدار تحت رحمة حكَّام جبَّارين ومستبدِّين يقتلون مواطنيهم، ويدمِّرون مدنهم وقراهم ومزارعهم حفاظًا على كرسيِّ الرئاسة، فيهجر الوطن مئات الألوف إن لم يكن الملايين منازلهم قاصدين مخيَّمات الذل والمسكنة على الحدود المجارة لبلداتهم.
استعدت بالذاكرة وأنا في مكَّة المكرَّمة الزمن الذي عشته أوَّلاً في جبل أبو قبيس، ومن بعد في القرارة. أيَّامها كان ما بين الصفا والمروة طريق عامٌّ مكتظٌّ بالحركة وعلى جانبيه المباني والدكاكين، ومنه تتفرَّع الحواري والأزقَّة لتحيط بالحرم إحاطة السوار بالمعصم. وكذا الحال في طيبتي الطيِّبة، المدينة المنوَّرة أياَّم باب بصري وزقاق الحبس، لمَّا كان السور يلتفُّ حول المدينة المنوَّرة محتضنًا أحيائها وأحواشها، وتلتفُّ المباني والدكاكين حول سور المسجد النبويِّ الشريف لتوفِّر الإقامة الطيِّبة لضيوف نبيِّنا الكريم مع فرص التسوٌّق والبيع والشراء.
بذلت جهدي في تلك الأسابيع الأربعة لزيارة مَن أحرص على لقائهم من الأهل والصحب والأحباب، وحالت بيني وبين لقاء معظمهم سرعة الزمن وزحمة المرور وأعمال الطرق التي لم تترك طريقًا أو شارعًا إلاَّ وزرعت على أطرافه لوحات التنبيه لتحويلة قادمة، وما أكثر التحويلات! ناهيك عن اكتظاظ الطرق الرئيسة والفرعيَّة بالسيَّارات، وجهل غالبيَّة مَن يقودها بآداب المرور، وبحقِّ الآخرين في التحرٌّك بسهولة ويُسر. مع طيش العديد من السائقين الذين رأيتهم يمارسون القفز بسيَّاراتهم يُمنة ويسرة، ورعونتهم واستهتارهم ليتقدَّموا بضعة أمتار معرِّضين أرواحهم وأرواح الآخرين للهلاك. فما من طريق أو شارع إلاَّ ويشهد يوميًّا أكثر من حادث مروريٍّ وغالبيَّتها حوادث دامية حتَّى قاربنا دخول "موسوعة جينز" في عدد ضحايا المرور، إن لم نكن قد دخلناها بالفعل!
تعمل أجهزة "ساهر" على رصد السرعة والالتزام بقوانين المرور بجدٍّ ونشاط لتغذِّي " ساهر " ببلايين الريالات سنويًّا، ومع هذا ما تزال ثقافة قيادة المركبات وعبور المشاة للطرق والالتزام بالأنظمة والتعليمات المروريَّة شبه معدومة. بدا هذا جليًّا لي وأنا أغادر المسجد النبوي الشريف بعد صلاة الجمعة بالسيَّارة، وحولي آلاف من السيَّارات تتحرَّك في شوارع المنطقة المركزيَّة، ومئات ألوف المصلِّين يقطعون الطريق على طوله مع وجود علامات خطوط المشاة لانعدام مَن يوجِّه المارَّة لها، وينظِّم حركة عبورهم الطريق. وبسبب ذلك، تتحرَّك السيَّارات ببطء، ممَّا يستغرق خمسة وأربعين دقيقة للخروج من المنطقة المركزيَّة، واستلام الطرق الرئيسة، في حين أنَّ المشي على الأقدام لا يتطلَّب أكثر من عشر دقائق. هناك، سرح بي الخيال إلى شوارع طوكيو في ستينيَّات القرن الماضي، وشوارعها مكتظَّة بالسيَّارات وأرصفتها بالمشاة، والسير يتحرَّك بانسياب وهدوء، وانتقال المشاة بين طرفيِّ الطريق يتمُّ عبر ممرَّات بعضها عند إشارات المرور وغالبيَّتها ما بين إشارتي مرور لتسهِّل عبور المشاة، والكل ملتزم بالإشارة ولونها. يكفي لعبور المشاة الممرات ما بين إشارتي مرور، رفع واحدٍ من أعلام المرور المتوفِّرة على جانبيِّ الممر لتتوقَّف حركة سير المركبات، ليعبر المشاة بأمن وراحة واطمئنان. ويُترك العلم في مكانٍ مُحدَّدٍ على طرف الطريق المقابل.
لكم تمنيَّت لو أنَّ القائمين على حركة المرور في بلداننا يقتبسون ذلك الإجراء، في المنطقة المركزيَّة حول الحرم النبوي الشريف خاصَّة، لكن سرعان ما قطع تفكيري واقع الحال، وما شاهدته من فوضى الحركة وتزاحم المركبات مصحوبًا بتدافع المشاة، وكلاًّ منهم يودُّ أن يكون الأوَّل في قطع الطريق، ويرى أنَّه صاحب الحقِّ الأوَّل في اجتيازه! اعتقاد، تراه شائعًا حيثما كنت وتحرَّكت في عالمنا العربيِّ الذي يفتقد معظم مواطنيه التحلِّي بأخلاق الإسلام، وما جاء في السيرة النبويَّة من إرشادات وتوجيهات تنظِّم الأسرة والمجتمع، وتعطي الطريق حقَّه. ولكم يعاودني تساؤل كلَّما شاهدت مواطنين من بني قومي يحترمون آداب الطريق وهم في بلدان الغرب وأمريكا ويتجاهلونها في بلدانهم!
ما علينا. عدت إلى مدريد وشوقي كبير للعودة إلى الأهل والوطن، وفي أذني يتردَّد صدى قصيدة كانت في المقرِّر الدراسي عن أعرابيَّة، تقول الروايات إنَّها ميسون بنت بحدل الكلبيَّة، تزوَّجها معاوية بن أبي سفيان، ومنه حملت ابنه يزيد، ولمَّا سمعها تقول هذه الأبيات، طلَّقها، وعادت من دمشق إلى أهلها في نجد:
لَبَيْتٍ تَخْفُـقُ الأَرْيَـاحُ فِيْـهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِـنْ قَصْـرٍ مُنِيْفِ
ولُبْسُ عَبَاءَةٍ ، وَتَقَرَّ عَيْنِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ
وَبَيْتٌ تَخْفِقُ الْأَرْوَاحُ فِيهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ قَصْرٍ مُنِيفٍ
لوكَلْبٌ يَنْبَحُ الْأَضْيَافَ وَهْنًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ قِطٍّ أَلُوفِ
لَأَمْرَدُ مِنْ شَبَابِ بَنِي تَمِيمٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ شَيْخٍ عَفِيفِ
خُشُوْنَةُ عِيْشَتَي فِي البَدْوِ أَشْهَى إِلَى نَفْسِي مِنَ العَيْشِ الظَّرِيْفِ
فَمَـا أَبْغِي سِوَى وَطَنِي بَدِيْلاً فَحَسْبِي ذَاكَ مِنْ وَطَنٍ شَرِيْفِ
محمَّد بشير علي كردي سفير المملكة العربية السعودية سابقاً في اليابان
بان اورينت نيوز