إتكاءة على ساحل الباسيفيك: الفاتح ميرغني يحاور الروائي السعودي عبده خال في طوكيو

"نحن نسمع الصرخات العظيمة لكننا لا نشعر بأصحابها، وإذا شعرنا انحبست مشاعرنا عند اللحظة الأولى لانطلاق صرخاتهم".
"الرواية هي تاريخ الصامتين".
"كتبت رواية : "الموت يمر من هنا في فترة فتوة الجسد وعنفوان الروح".
"الكتابة عشق خاص عليك أن تمارسه بالصيغ التي تحبها".
(عبده خال)

طوكيو- الأحد 1 يونيو 2014 / بان اورينت نيوز/

من الصعوبة بمكان النظر إلى خارطة الرواية العربية، وخاصة الرواية الخليجية، دون التوقف في محطة من محطاتها الرئيسية: عبده خال، الحائز على جائزة " البوكر" للرواية العالمية في نسختها العربية عام 2010م عن روايته "إنها ترمي بشرر". كما احتل المرتبة العاشرة ضمن قائمة أكثر 100 شخصية مؤثرة في العالم العربي، وذلك في الاستطلاع الذي أجرته مجلة "إربيان بيزنس" الرصينة في نفس العام.
والروائي عبده خال، إلى جانب مهاراته السردية البديعة، كما يقول النقاد، فإنه يتميز بالقدرة على سحب القارئ لتلافيف حكاياته المتشعبة، على كثرة شخوصها وتشابك خيوطها، برشاقة تحبس أنفاس القارئ وتجره جراً إلى آخر صفحة من روايته في زمن قياسي!
وكان من المفترض أن يتم هذا اللقاء على هامش مشاركة الروائي عبده خال في "مهرجان طيران الإمارات للآداب" الذي يقام سنوياً في دبي. ولكن ضيفنا جاء إلى طوكيو مؤخراً في زيارة خاصة جداً، فرأينا أن ننتهز هذه الفرصة للقائه وإجراء حوار معه.

الفاتح ميرغني: الأستاذ عبده خال. سعيد جداً بلقائك في طوكيو، وكنا نخطط للقاء بك في دبي، حيث يحلو الكلام مكاناً وزماناً،على هامش مشاركتك في "مهرجان طيران الإمارات للآداب".

عبده خال: شكراً أستاذ الفاتح وما زال وعد اللقاء قائماً، والفعالية تجمع عدداً كبيراً من المبدعين من كافة أنحاء العالم ليتحدثوا عن تجاربهم في فن الرواية والقصة القصيرة والشعر والموسيقى وكافة ضروب الإبداع الأخرى. وكنت قد شاركت في هذا المهرجان في العام 2012م، وكان جماله في ذلك التعدد والتفرد.

الفاتح ميرغني: كونك كاتب عمود راتب في الصحافة، فهل يخصم ذلك من عطائك الإبداعي، كما يرى البعض، أم أنه يضيف إليه كما يرى آخرون؟ بمعنى آخر، يرى البعض أن الصحافة تأخذك بعيداً عن الإبداع الروائي وعن قراءك، فيما يرى آخرون أن الصحافة تضيف إليك بحسبانها تجعلك اقرب إلى نبض الناس، وبالتالي ملامسة همومهم الحياتية.

عبده خال: بدءاً، ولكي أكون صريحاً بأكثر شفافية بعيداً عن مزدوجة طرفي السؤال: بين أن تعطي أو تأخذ. للأسف الشديد، فإن الكتابة، ككتابة إبداعية، لا تعطيك المقابل المادي الذي يمكن أن تحصل عليه من الزاوية الصحفية التي تكتبها يومياً. ومن المفارقات أن تكون قد كتبت اثنتي عشرة رواية، ولا يمكن لمردود الاثنتي عشرة رواية أن يعطيك المردود الذي يمكن أن تعطيك له الجريدة في شهر واحد. فهناك فارق كبير. وبهذه الواقعية المعيشية الحقيقية لكي تعيش حياة كريمة، ولكي توفر حياة كريمة لك ولأسرتك، فلن تجدي الكتابة الإبداعية من حيث المردود المادي، في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة. صحيح إن الكتابة الصحفية قد تستهلكك لو أردت أن تنساق وراء مطحنتها الاستهلاكية وأنت تكتب بنفس الأسلوب الأدبي، لأن ذلك قد يستنزفك استنزافاً مهولاً. لكنني اخترت طريق أن اكتب بعيداً عن الأسلوب الأدبي في العمق لأن ذلك يشكل استنزافا مهولا لمن يكتب يوميا. لذلك دأبت على أن اكتب الزاوية اليومية باللغة الصحفية البسيطة التي هي اقرب إلى التحدث بالعامية. وبالتالي هي مزاوجة ما بين تحقيق رغبات العيش بشكل جيد، والمحافظة على المخزون الروائي بعيداً عن الاستهلاك اليومي.

الفاتح ميرغني: الملاحظ أن بعض عناوين رواياتك، وحتى القصص القصيرة، غالباً ما تتميز بمسحة شجن أو حزن يكاد المرء أن يلمسها في بعض العناوين، قبل أن يقرأها أحياناً في أقدار شخوص القصة أو الرواية. وفي ذهني، على سبيل المثال لا الحصر: "ذلك البعيد كان أنا" و"ليس هناك ما يبهج" و"من يغني في هذا الليل؟" و"الموت يمر من هنا" و"من أمامي ترحل العصافير". لماذا؟

عبده خال: وأيضاً في عنوان في المجموعة الثانية: "لا أحد"، أو "لا أحد في القلب لا احد في الطرقات". قبل الحديث عن المسببات، علينا أن نعرف أن الأجواء القصصية للشخصيات هي التي تُسيّر الكاتب، أو أنها تتحول إلى أداة ضغط لكي توجهه أثناء كتابة النص. سوف اذكر لك طرفة: كان احد الأصدقاء دائماً يقول لي: "شيل هذه العناوين الكئيبة": "ليس هناك ما يبهج و"الموت يمر من هنا" و"لا احد في القلب لا احد في الطرقات"...الخ. وفي تلك الأيام كنت اعد مجموعة "من يغني في هذا الليل؟"، فتصفحها، فإذا بأول قصة كانت بعنوان "المقبرة" فقال لي: "مفيش فايدة!". وعودة للسؤال، فإن اختيار أو صناعة العنوان، يتم من فضاء النص القصصي المكتوب.

الفاتح ميرغني: كتب عنك الأديب الراحل " غازي القصيبي" ذات مرة يقول: " تحبه.. وتكرهه.. تحبه لموهبته.. وتكرهه لأنه يذكرك بالمأساة الإنسانية". وهناك من شبهك بـ"كافكا" الرواية العربية!

عبده خال: قد أجد تفسيراً وأنا اجلس معك هنا لم يخطر على بالي من قبل: ربما لأن الطبقات المسحوقة التي اكتبها، هي بائسة وتشعر دائماً بانسداد الأفق أمامها، وأن أجواءها تقترب كثيراً من أجواء السأم والضجر، والشعور بعدم وجود منافذ تتحرك بداخلها ومن هنا تأتي عناوين رواياتي وشخوصها.

الفاتح ميرغني: هذا بالطبع يقودنا للحديث عن كثرة الشخوص في الرواية بالنسبة لعبده خال. هل هي من وحي الإلهام أم أنها شخصيات تفاعل معها في الحياة الدنيا، ثم أسقطها على مسرح الرواية؟

عبده خال: أولاً، لو أردنا أن نتحدث عن كثرة شخوص الرواية، دائما لا تستطيع أن تفصل ما بين الضجيج الذي يعيش في داخلك أو يعيش في مخيلتك لهذه الشخصيات وارتباطها بالضجيج الخارج عنها. والآن نحن ثلاث شخصيات في هذه الغرفة. لكن في رأسك تضج عشرات الشخصيات وفي رأسه تضج عشرات الشخصيات والأحداث، وفي رأسي أيضاً تضج عشرات الشخصيات. فلذلك فإن الإتيان بشخصية داخل الرواية وتركها بمفردها من غير أن تخلق هذا الضجيج المرتبط بها، هو نوع من البسترة للشخصية وإبعادها عن واقعها، بحيث يتم تركيز الزوم في شخصية واحدة، وهذا وإن كان مقبولاً في الفن السينمائي، تجسيد شخصية ما بزوم، إلا أنه غير مقبول في الفن الروائي حيث إن صناعة الرواية لا يمكن معها عزل هذه الشخوص وحركتها وأثرها على الشخصية الأساسية. أما عن اختيار الشخصية الأساس في ظل هذا الكومبارس الكبير جداً، فقد يكون مرده هو كونها هي صاحبة الحدث، وقد يرجع هذا الاختيار لكونها ملفتة، كما قد يكون راجعاً إلى جاذبية الأفكار التي تحملها الشخصية، مما يفرض على الروائي أن يجعلها بمثابة المركز أو الشخصية المحورية، أي الشخصية التي تفرض ذاتها من خلال أفكارها وسلوكها وممارساتها في الفضاء الروائي.

الفاتح ميرغني: ذكرت ذات مرة انك لم تشفَ بعد من أمراض أبطال رواياتك. فهل تماثلت للشفاء تماماً، أم أنك لم تزل تنشده؟

عبده خال: أتمنى ألا أشفى من سقمي، لأن لديّ شخصيات كثيرة في داخلي لم اكتبها. ولذلك إذا كان الشفاء يمنعني من كتابة بقية من يضج في داخلي، فأتمنى ألا أشفى. اذكر أنني كنت كثير التوعك والوقوع. اذهب إلى المستشفى ولكن يقال لي" ما فيك من شيء". اجتمع بعض الأصدقاء وقالوا لي: "إيه رايك تزور طبيب نفسي" فوافقت. وقال لي الطبيب :" تحدث"، فقلت له:" شغلي أني أتحدث. فأنا كاتب روائي ولكن كل شخصية اكتبها تتلبسني فترة طويلة". فقال لي:" إذن أنت تعرف مشكلتك". والروائي والممثل السينمائي أو المسرحي يعرف مسألة التقمص أو تلبّس الشخصية له لفترة طويلة.

الفاتح ميرغني: يقال عادة إن اجتماع شيء من الدين، وشيء من الجريمة، وشيء من الغموض وشيء من الجنس، كفيل بإعطاء أي قصة أو رواية أعلى عناصر الجذب والإثارة. وقد اجتمعت كل هذه العناصر في روايتك "إنها ترمي بشرر". فهل في تقديرك أن ذلك كان أحد أسباب نجاحها ومن ثم فوزها بجائزة "البوكر العالمية" في نسختها العربية عام 2010م؟

عبده خال: هناك محاولة لابتسار العمل الروائي، محاولة لخلق نوع من المثبطات والمسببات الرافضة لان تفوز بجائزة ما، وبالتالي يقال لك إنك توصلت إلى الخلطة فيمكن أن تفوز بجائزة. لنعد إلى الحياة ذاتها: هل تستطيع أن تلغي الجنس من الحياة؟ هل بمقدور أحد أن يلغي الدين من الحياة؟ هل تستطيع أن تلغي السياسة من الحياة؟ إذن هذا المثلث الذي يسمى بالـ "تابو" لا تستطيع أن تلغيه من الحياة، فهو متواجد في كل نقطة في حياتنا. فلنبدأ من النقطة الأولى: وجودنا جاء عن طريق الجنس، انتظامنا الحياتي جاء عن طريق السياسة، استقرارنا النفسي جاء عن طريق الدين، فبالتالي ما لا تستطيع أن تنقّي الحياة منه، فلا تستطيع أيضاً أن تنقّي الرواية منه. والرواية هي حياة. وإذا أمنّا بأنها هي حياة موازية للحياة المعاشة، يصبح من العيب أن تتهم كاتباً بأنه ذكر الجنس أو الدين أو السياسة.

الفاتح ميرغني: هناك من يصفك بالـ"متمرد" على السائد والمألوف، أي بأنك مناكف "للتابوهات".

عبده خال: الثلاث أيقونات التي يراها البعض صادمة للمجتمع سواء الجنس أو الدين أو السياسة النظرة لها نظرة نسبية. إن ما تراه أنت صائباً، قد أراه أنا على خطأ. ومن حيث فهمنا للدين، فقد تراه بصيغة معينة وأراه بصيغة أخرى، وكذلك الموقف من السياسة، إلا أن الموقفين لا يلغيان هذا المثلث. وبالتالي فقد تكون النظرة لما تقدم متأثرة بالصورة السائدة في المجتمع، أنه ليس صحيحا وليس صائبا، وبالتالي تسعى من خلال شخوصك أن تعبّر عن تلك الرؤية في داخل الشخصيات. بمعنى آخر، عندما تعيش المجتمع كحياة تجد أن به كل التجاوزات سوى كانت جنسية أو دينية أو سياسية، وبالتالي عندما تنتقل إلى الجانب الروائي تجد في الرواية نفس المجاميع الموجودة في المجتمع. وإذا كان المعاش في الحياة الاجتماعية صامت، فإنه في الرواية هو المتحدث. ولهذا دائماً أقول إن الرواية هي تاريخ الصامتين، تاريخ الذين لم يسمح لهم التحدث عبر التاريخ. وبالتالي، جاءت الرواية لكي تنتصر لهؤلاء الصامتين، ولكي يصبح حديثهم حديثاً رسمياً لمن ظلوا صامتين. ففي الرواية تجد من لا يعتد به في الواقع المعاش، أي من لا يعتد به سياسياً كما لا يعتد برأيه حول الجنس أو الدين. وبالتالي فهو هنا يمارس كل تمرده الذي هو عبارة عن رفض للواقع المعاش، وعندما يختار الروائي أو يلتقط شخصية من هؤلاء المتمردين أو الصامتين أو الساخطين، يجد أنها تأتي غير مطابقة للواقع المعاش، وذلك لأن فرصته للتحدث أو لقول ما يؤمن به هنا، هنا أصبح المتحدث الرسمي. ولذلك أرى من العيب أو من الجرم أن يحوله الروائي إلى نسخة صامتة في الرواية أيضاً.

الفاتح ميرغني: في لقاء مع صحيفة "الغارديان البريطانية" قلت بأنك لم تكن تتوقع الفوز بجائزة البوكر.هل تشعر بأن فوزك بالجائزة شكّل نوعاً من الضغوط على منتوجك الإبداعي كما يرى البعض؟

عبده خال:" دائما أقول إن من يكتب من أجل جائزة لا يستحق أن يكون كاتباً. فالكتابة هي عشق خاص عليك أن تمارسه بالصيغ التي تعشقها أو تحبها. فإن منحت هذا العشق لعين أخرى، فأنت بالتالي تتخلى عن معشوقتك. الفوز بجائزة البوكر جاء بعد ثمانية أو تسعة أعمال روائية. ولو كنت أتغزل في الجوائز، لكنت منذ وقت مبكر قد سعيت، كما يسعى الآخرون، لكي أحصل على جائزة. كنت قد كتبت أول عمل روائي وهو "الموت يمر من هنا"، والأمل يحدوني أن يلفت الأنظار، إلا أن توقعي لم يكن في محله، حيث عبرت الرواية الساحتين المحلية والعالمية بشكل بطئ. ولأني بالفعل، وكإيمان، اعتبر أن الكتابة بالنسبة لي هي حياة أو وجود خاص، فهذا الوجود الخاص لا يمكن المراهنة عليه، فلا يمكن المراهنة على أن الكتابة بطريقة ما تكون ثمارها بالضرورة الحصول على جائزة، والكتابة بطريقة أخرى لا تؤهل الكاتب لنيل جائزة. ولذلك واصلت في الكتابة. ولكي ابتعد عن مأزق سؤالك هذا، كتبت بعد سنتين من حصولي على الجائزة رواية "لوعة الغاوية"*، وكما أحب.. اعتقد أن من يكتب من أجل أن يحصل على جائزة لا يستحق أن يكون كاتباً.
* فازت بجائزة معرض الكتاب عام 2013م.

الفاتح ميرغني: لكن المحبين لأعمالك يرشحونك لجائزة نوبل في الأدب.

عبده خال: إذا اتفقنا أن المشاعر الإنسانية واحدة تصبح المشكلة مشكلة انتقاص للذات. ما هو الشيء الذي سيوصلني لأن أكون ماركيز أو ايزابيلا أو امبرتو ايكو أو أي اسم آخر أبدع في الرواية. إن هؤلاء الروائيين قد تم تقديمهم إلى العالم الآخر بلغاتهم حتى وصلوا إليهم، أما أنا فلم يتم تقديمي إلى الآخرين بلغاتهم. الروائي العربي محسوب على العالم العربي وعالمه العربي يتنافس على إسقاطه. وبالتالي إذا انشغل الروائي بمسألة الوصول إلى الجوائز والعالمية، يكون قد أسقط نفسه. وكما قلت في البداية إن مهمة الكاتب ككاتب هي أن يكتب. إن مشكلتنا في العالم العربي هي أننا نشعر بانتقاص لذاتنا. أنا اشعر أني عظيم عندما اكتب ولا يهمني أن اصل أم لا، وسوف أواصل الكتابة بذات الدفء وذات العشق وذات الحميمية وذات الحب.. فإذا لم تؤمن بأنك عظيم لا يشعر الآخرون بأنك كذلك، فأنا اشعر أني عظيم أن اكتب.

الفاتح ميرغني: يرى الناقد "محمد العباس" أنك قد تجاوزت: "قلق التجاوز"، أي أنك قد تخليت عن حرصك على القارئ في رواية "إنها ترمي بشرر".

عبده خال: عندما تكتب وتكون حريصاً على إرضاء شخص واحد، يسقط العمل الروائي. الكتابة هي أن تكون المتفرد الوحيد، ولذلك تسمى إبداعاً، والإبداع هو نوع من الخلق والتفرد. وإذا أراد الخالق أن يستشير فيما يخلق، فإنه لا يصبح خالقاً. عليك أن تتخلص من كل الضغوط أو الرغبات التي يرغب فيها القارئ الواحد. فما بالك بآلاف أو ملايين الأسماء الكبيرة جداً التي ترد. إن تميز الروائي يتوقف على سيره بمفرده، وإذا أراد الروائي أن يقلق وهو يسير، أو أن يسير برفقة أحد لكي يجنبه مغبة الطريق، فخير له ألا يسير. لذلك، وأنا أكتب، كنت أتخلص حتى من عبده خال نفسه.

الفاتح ميرغني: هناك روائيون قبلوا تحويل روايتهم إلى أعمال مرئية مثل الكاتبة أحلام مستغانمي صاحبة رواية "عابر سرير" التي تحولت إلى مسلسل تلفزيوني، وهناك أيضاً من خاضوا التجربة مرة، ثم رفضوا تصوير رواياتهم الأخرى مثل الفيلسوف والروائي الايطالي أمبرتو إيكو باعتبار أن ذلك سينمّط شخصيات روايته.

عبده خال: الآن غدت السينما أو الفن السابع لغة مجاورة للغة الرواية. قد اتفق مع أمبرتو إيكو بأن تحويل الشخصية المحورية في الرواية إلى صورة يؤدي إلى قتل هذه الشخصية في مخيلة القارئ أو إلى قطع توارد الخيال لديه. وعندما تتحول الشخصية في الرواية إلى صورة مجسًدة، فإن ذلك من شأنه أن يقطع توارد الخيال، هذا جزء، إذ كنت مؤمناً بضرورة أن تظل الرواية مكتوبة ولا تنقاد إلى التحول إلى عمل مرئي. يمكن أن يكون نجيب محفوظ قد خرج بالقضية إلى جانب آخر لكنه سرعان ما شعر بأن هذا فن آخر بعيد عن فن الرواية، لذلك قال: "إن من يريد أن يتعرف على "نجيب" عليه أن يقرأه في الرواية لا أن يشاهده في السينما". ولكن لأن العالم الآن أصبح عالم صورة، فمسألة حرمان السينما من هذه الكنوز الروائية، يصبح فيه نوع من الضرر، والسبب في ذلك هو أن هناك من لا يقرأون.

الفاتح ميرغني: ماذا عن عبده خال؟ وهل توافق على تحويل رواياتك إلى أفلام أو مسلسلات؟

عبده خال: بالنسبة لي للأسف الشديد لم تكن العروض أو الرؤية التي طرحت مشجعة. وأول شيء ليس لدينا سينما. وهذا بالتالي يجعل الفضاء السينمائي عندنا ضيق أو يضيق حتى يكاد أن يكون معدوماً. وإذا ما تمت الموافقة على نقل الشخصية المحورية في الرواية إلى الشاشة الفضية، فقد يشترط على الروائي تحويلها أو تغذيتها بأفكار سطحية وبليدة، وهذا بالطبع أمر يؤلم كاتب النص بسبب أنه يسلط ضوءاً جاهراً على منطقة العمى الروائي، ومن ثم يحرم القارئ من المساحة التي يجدها في حريته لتخيل شخصيات الرواية. ولا يمكن لكاتب أن يرضى بأن يتم اغتيال الشخصية المحورية في روايته، وعندما رضي "نجيب محفوظ" بتحويل رواياته إلى سينما، صُورت شخصياته كما هي. ولكن هذا لم يمنع اغتيالها في مخيلة القارئ. ولذلك تجدني دائماً ارفض تحويل رواياتي إلى أعمال سينمائية أو مسلسلات.

الفاتح ميرغني: ما هو رأيك في الساحة الروائية العربية من حيث الإبداع الروائي في الوقت الراهن. هل تراها في حالة ركود أم فوران؟

عبده خال: ليس بالإمكان أن تصدر حكماً على مجال الرواية في العالم العربي، وذلك نظراً لتعدد الأماكن الجغرافية وانتماءاتها، والأعداد الكبيرة جداً من الكتاب الروائيين. إلا أن ما يظهر على السطح يكشف عن أن الرواية العربية في حالة تبدلات وتحولات تحدثها كثير من الأقلام الروائية. هذه التبدلات دليل على أنها، أي الرواية، كائن ينمو، وكائن يستطيع أن يتحرك من نقطة إلى أخرى محققاً انجازاته. وفي كثير من جغرافيتك العربية، تجد أسماء مهمة جداً، وتُكتب الروايات بشكل متقدم جداً. لكن لشعورنا دائماً بأننا مهزومين، وأننا أداة تعبير قادمة، وليست مُنتجة من الأدب العربي، فإننا ننظر للرواية دائماً بنوع من الانتقاص، ونوع من الإقصاء مقابل الروايات الأخرى. بالنسبة لي عندما اقرأ لبعض الروائيين العرب، وبعض الروائيين الأوروبيين وبعض الروائيين الأمريكيين أو اليابانيين، أجد أن الروائي العربي متقدم. إلا أن عدم تسليط الضوء عليه أو بقائه في الهامش، يجعل عمله الإبداعي أيضاً في الهامش.

الفاتح ميرغني: هل تكمن مشكلة الرواية العربية في عدم تسليط الضوء عليها وتقديمها للآخر؟

عبده خال: الرواية العربية مثلها مثل بقية الروايات في مختلف بقاع العالم بها العمل الناضج وبها ما هو دون ذلك، ومن المجحف أن يتم تقييم الرواية العربية في دقيقة أو دقيقتين. لكن كرد على الأسئلة الصحفية التي تطرح في هذا المجال، يمكن القول إنها رواية لها تطورها الحياتي، إذا أردنا أن نقيسها بكائن حي. فهي لا تزال فتية ولا تزال لديها طموحات اختراق طبقات الإهمال من قبل من يعتبرون سدنة الرواية، سواء الأوربية أو ما يترجم، حيث نجد أن الروايات التي تترجم لا تحظى بإقبال قرائي وقبول لدى القارئ الآخر في هذا العالم.
الفاتح ميرغني: ما رأيك في رواية "شارع العطايف" للروائي "عبدالله بن بخيت" ورواية "بنات الرياض" للروائية "رجاء الصانع"؟

عبده خال: لي صديق اسمه "علي الشدوي" وهو من النقاد المحليين في المملكة العربية السعودية، كان لا يقوم بغير النقد الصرف، ثم اتجه في مرحلة لاحقة إلى المزاوجة ما بين النقد وكتابة الرواية. وعندما ولج عالم كتابة الرواية أصبح يشعر بالضجر و يضيق صدره بالردود التي يكتبها بعض القراء حول أعماله. فقلت له :" الآن تستطيع أن تذوق ما يذوقه الروائيون عندما يأتي ناقد فيقوم بتشريح أعمالهم". وهذه تجربة واقعية. فكل شخص يريد أن ينتقد رواية عليه أن يجرب الكتابة، وينتظر النقاد ليحكموا على عمله. ولكن أقول لكل عمل روائي ثمة مُستقبِل يستطيع أن يزنه ويعطيه قيمته بما يتفق مع وعيه ومع ثقافته ومزاجيته وذائقته. فلا تستطيع أمام تقييم أي عمل أن تكون صارماً صرامة السياف، والجزم بأن عملاً ما ممتاز أو سيء. وما بين الحكمين يقف المزاج ويقف تلاقي الذوق، فقد تتلاقى ذائقة القاريء مع العمل المكتوب، وبالتالي يصبح في ذهنه أجمل عمل، وقد لا تتلاقى ذائقته القرائية وحتى المزاجية مع العمل، فيراه من أسوأ الأعمال. وكل عمل سواء كان من أعمال " ماركيز" أو من أعمال "رجاء الصانع"، أو من أعمال "عبد الله بن بخيت" يقع بين هذه المزدوجة وخيار ذائقة القارئ وبما يتسق معها أو لا يتسق.

الفاتح ميرغني: لكل روائي أو مبدع عمل ما يظل عالقاً في وجدانه مثلما يفعل الحب الأول. ما هو حب عبده خال؟

عبده خال: الكتابة بالنسبة لي هي حياة. بمعنى أن كل مرحلة لكتابة عمل أو لتلحين لحن هي لحظة حياة تمت أرشفتها وتحولت إلى ديوان أو رواية أو موسيقي. هذه اللحظة لا يمكن أن تتساوى مع لحظات غيري، هي حياتي أنا، هي روحي التي عشت من خلالها تلك الحيوات التي كتبتها في الروايات المختلفة. لن أقول أفضل أعمالي ولكن أقول أن أفضل حيواتي التي عشتها قد تكون هي "الموت يمر من هنا" لأنها أول عمل بالنسبة لي وبها تدفق ومغامرة كتابية وعدم خشية من أحد. لأنه عندما لا تكون مراقباً أثناء الكتابة، تصبح متحرراً وتمتلك كامل الأهلية. وعندما تقوم بإصدار الرواية تصبح بعد ذلك مقيداً بجوانب القراء. أحب "الموت يمر من هنا"، لأنني كتبتها في إحدى عشرة سنة وبالتالي اعرف تفاصيلها تماماً، كما أنني أعطيت فيها قوة الشباب والعنفوان، حيث كتبتها وأنا في الثالثة والعشرين وأصدرتها وأنا في الرابعة والثلاثين وهي مرحلة فتوة الجسد وعنفوان الروح. كما أن هذه الرواية لم تكن مقيدة بما يجب أن تكتب به الرواية إذ كنت متحرراً كثيراً، روحاً وجسداً وعاشقاً. فقد كانت أشبه بمطارحة امرأة العشق سنينا طويلة. أحبها كثيراً. كما أحب كذلك رواية "الطين"، فهي تحمل أيضاً فتوة الجنون.

الفاتح ميرغني: ما هي آخر أعمالك أو منتوجك الإبداعي القادم؟

عبده خال: أصدرت قبل شهرين عملين عن الأسطورة، الأول "قالت حامدة: أساطير حجازية" والثاني "قالت عجيبة: أساطير تهامية". وقد كان العملان ثمرة مشروع حكائي جمعته خلال 25 سنة.، لأني مهتم بجمع الحكايات الشعبية والملاحم. وقد تأخر هذا المشروع كل هذه الفترة الطويلة لأني كنت أسعى لإجراء مقارنة بين الأسطورة العالمية في مجالها من ناحية، وتواجدها في أقصى جنوب الجزيرة العربية أو تواجدها في الحجاز مع خلق توصيلات وربط مع الأسطورة الأم، واضمحلالها أو تشكلها حتى وصلت إلى حكاية بسيطة تُروى على ألسنة الجدات، من الناحية الأخرى. ولهذا تأخر هذا المشروع. وحتى إذا ما أحدثت هذا التواصل بين الأسطورة الأم وتلك المرويات، وجدتُ أن لديّ رغبة في كتابة مقدمة لهذا الكتاب فاستطردت حتى وصلت المقدمة فقط إلى 120 صفحة. اعتبر نفسي استفدت من محاولة الغوص في العقل الإنساني الأول وكيف صنع روايته. وقد كنت مهتماً بالملاحم باعتبار أن الحكاية هي العلم الأول للعقل الأول، بحيث كانت تفسر له ما لم يستطع أن يفهمه. وكانت الحكاية تصنع تلك الأنفاق وتلك الطرق الواسعة لكي يعبر الإنسان. واعتقد أن الحكاية هي صانعة الحياة، بمعنى إن ما هو موجود اليوم كان حكاية. وحتى إذا ما تم حكي هذه الحكاية، تحولت من أمر متخيل إلى واقع معاش. أما بالنسبة للمشاريع القصصية والروائية فكما قلت لك في السابق إن في دواخلي شخصيات كثيرة لم أكتبها بعد، شخصيات ساقتني الظروف لمعرفتها ومعايشتها. ولعل أروع الشخصيات التي يمكن أن تكتب عنها هي الشخصيات المشاغبة والمتمردة على واقعها والتي إذا ما تحولت إلى الورق ازداد شغبها وتمردها.

الفاتح ميرغني:استاذ عبده خال شكرا لإتاحة الفرصة للحوار، مع اطيب الأمنيات لك بالمزيد من النجاح.
عبده خال: شكرا استاذ الفاتح مع اطيب الامنيات لك بالنجاح في حياتك المهنية.

عبده خال: مدير تحرير جريدة عكاظ السعودية
الفاتح ميرغني رئيس تحرير مجلة وورلد لينكس سابقا في طوكيو.
الصورة: عدسة ألبيرت سيغل ( بان اورينت نيوز)
حقوق النشر الحصرية لوكالة بان اورينت نيوز في طوكيو



لقاء خاص