وللخريف أيضاً مباهجه، خاصة في اليابان

عَمان – الثلاثاء 29 أبريل 2014
بقلم سمير عيسى الناعوري
خاص إلى بان اورينت نيوز


في العادة فإن الشعراء والفنانين والمحبين وحتى الناس العاديين يتغزلون دوما بالربيع ويصفونه بأجمل الأوصاف من خضرة وطراوة جو وأنسام عطرة وثلاثة هضاب وسهول تكسوها حلل جميلة من الأزهار والنباتات وعليه يأخذ الربيع كل أوصاف الحب لا بل ويوصف بربيع الحب، حب الطبيعة للناس وحب الناس للطبيعة.

وترى الناس في الربيع في بلادنا يخرجون زرافات ووجدناً إلى الغابات والمناطق الجميلة التي تكسوها الخضرة للاستمتاع بالمناظر الجميلة والهواء العليل، وفي الأردن بشكل خاص للربيع جماله الخاص فهو يبدأ بعد انتهاء موسم الشتاء أو قبل انتهائه بقليل فتزهو مختلف المناطق بالخضرة الجميلة، وأنواع الأزهار البرية الرائعة ويختفي كل ذلك مع قدوم الصيف وذلك نظراً لأن الأمطار في الأردن لا تأتي إلا شتاء، وبالتالي فإن للربيع في الأردن نكهته الخاصة وقيمته المضافة.

على أنني... وقد عملت كدبلوماسي في بلاد جميلة مختلفة ومنها بشكل خاص في اليابان، فقد وجدت أن للخريف أيضاً جماله وروعته وما يعكسه من جو هادئ وروعة ألوان وغنى في الطبيعة وهدأة التأمل، ففي الكثير من البلدان وقبل تساقط أوراق الأشجار تتغير ألوانها إلى أشكال ومناظر رائعة وفنية ساحرة.

ويعيدني هذا كله إلى ذكرى جميلة بشكل خاص خلال عملي كسفير في اليابان في الفترة من عام 2000 وحتى عام 2008، فكما كنت اعشق قدوم الربيع هناك وخاصة مع تفتح أزهار الكرز الرائعة، فقد كنت أيضاً أسعد بمثل مقدم الخريف، حيث ترى أوراق الشجر وقبل تساقطها الذي يأخذ عادة فترة ما، وقد تحولت ألونها إلى أطياف متعددة ولوحات جميلة رائعة خلابة على الجبال والتلال.

وفي خريف عام 2001، دعاني النائب السيد نوروتا، وسبق له أن عمل كوزير للدفاع، وثلاثة من زملائي السفراء الأجانب لزيارة مقاطعته اكيتا في الخريف نظراً لما هو معروف عن المنطقة من جمال رائع في فترة الخريف بشكل خاص، فقد رحبنا بذلك وسعدنا به.

وقد وصلنا إلى اكيتا في أواخر شهر تشرين الأول حيث نزلنا أولاً في فندق يقع في منطقة رائعة تحيط بها الجبال والتلال ويطل بالتالي على مناظر طبيعية غاية في الروعة.

وحيث أن اليابان تحتوي على العديد من ينابيع المياه المعدنية الساخنة، فقد كان الفندق أيضاً يحتوي على ينابيع من هذه المياه، ورغم محبتي لاستدام هذه المياه المعدنية الجميلة والصحية، إلا أنني لم أكن استطيع تحمل درجة حرارتها العالية جداً في اليابان، ولكني فوجئت بأن الفندق كان يقوم بضخ هذه المياه إلى حمامات الغرف المختلفة، وقد سعدت بذلك لأنني كنت أستطيع إضافة بعض الماء البارد ليخفف من الحرارة الشديدة لهذه المياه وكان هذا الأمر ممتعاً للغاية.

والأردن أيضاً يحتوي على عد من ينابيع المياه المعدنية الساخنة، وعلى الأخص حمامات ماعين التي لا تبعد كثيراً عن عمان في منطقة جبلية جميلة، وقد أقيم في هذه المنطقة فندق يحتوي أيضاً على معالجة باستخدام هذه المياه المعدنية الساخنة، وكنت أتردد أحياناً على هذه الحمامات مع عائلتي ونستمتع بمياهها أما عن السيل الذي تشكله هذه المياه التي تنحدر من أعلى الجبال، أو في البركة الخاصة داخل الفندق.

على أنني كنت ألاحظ أن المياه المعدنية في ماعين لم تكن على نفس درجة السخونة لهذه الحمامات في اليابان وقد يكون ذلك بسبب انحدار هذه المياه من أعالي الجبال وتشكل المياه المنحدرة من أعلى الجبال سيلاً يسير بين الجبال حتى تصل مياهه إلى البحر الميت في منطقة زايرة، وتاريخياً، فإن الرومان القدماء كانوا يستخدمون هذه الحمامات عندما كانوا يحتلون بلادنا.

وفي صبيحة اليوم التالي، بدأنا رحلتنا نحو منطقة مرتفعة في الجبال للاستمتاع بمناظر الخريف الخلابة، وكانت المناظر التي نمر بها جميلة للغاية، ولكن عندما وصلنا إلى المنطقة المرتفعة التي نقصدها ونظرنا من هذا المرتفع إلى المناظر الرائعة التي تشكلها الأشجار الممتدة بين الجبال ذهلنا لهذه المناظر التي تشبه الخيال، كانت المناظر التي نراها أورع بكثير من ما كنا نتخيله فمع كثافة الأشجار وأوراقها المتعددة الألوان، والتي كانت ترسم صوراً يعجز اللسان عن وصفها، وكأنها كانت بمثابة نهر من الألوان يترقرق بين الجبال، وهو منظر لا أنساه أبداً.

وقد كان وقع المنظر في نفسي مؤثراً للغاية، ووجدتني أعبر عن مشاعري بشأنه بكتابة شعر باللغة الإنجليزية حول ذلك فلكأنه الخيال يلهب الخيال وقمت بتقديم القصيدة إلى السيد نوروما بعد أن قام المترجم المرافق بترجمتها له إلى اللغة اليونانية.

وسأحاول هنا أن أقدم ترجمة بالعربية لهذه القصيدة أو بالأحرى لهذه المشاعر التي أسميتها...
ألوان الخريف في اكيتا...
لم أرى من قبل أبدا...
مثل هذه اللوحة الواسعة الجميلة ...
تمتد وتتسع لأميال وأميال...
لكأنها تربط الأرض بالسماء ...
ولا تستطيع ريشة أي رسام أن تعكسها ...
كما لا يستطيع خلط ألوان تماثلها ...
من أرى من قبل ...
مثل هذا النهر العظيم والممتد ...
يترقرق ولكن لي بماء ...
وإنما بسيل جارف من ورق الأشجار...
عاكساً هذه الخلطة الرائعة ...
من العناوين والألوان...
لم أرى من قبل ...
مثل هذه الصورة الرائعة ...
والتي تجمع السماء والأرض والمياه ...
في خليط مذهل وفتان ...
حيث تأخذ كل ورقة وشجرة وصخرة ...
مكانها الصحيح كما تتلاقى الألوان ...
لقد جئنا إلى اكيتا المكان ...
ولكننا نغادر اكيتا الحلم الجميل ...
نعيشه في كل يوم ...
جئنا لنشعر بقلب اكيتا المكان ...
ولكننا نغادر ولأكيتا مكان خاص ...
يعيش في قلوبنا على مدى الأيام ...


وبعد هذه الرحلة الرائعة مع الخيال قمنا بجولة على بعض الأماكن الجميلة الأخرى والتي تزخر بها اكيتا، فقد قمنا بزيارة لأحدى المزارع حيث التقينا مع بعض السكان القاطنين هناك والعاملين في حقل الزراعة، والذين دعونا لنتناول طعام الغداء معهم في أحضان الطبيعة، كان الطعام حضراً بأيدي هؤلاء السكان ومن منتجات منطقتهم، وكان الطعام طيب المذاق يعكس طيبة أهل المنطقة الذين قاموا بإعداده أمامنا وأمضينا وقتاً قصيراً مع أهل المنطقة، ولكنه كان وقتاً ممتعاً للغاية في التحدث معهم، وكان الحديث كالطعام نفسه ممتعاً وشيقاً. .

وبعد ذلك قمنا بزيارة لأحدى مزارع التفاح الذي نشتهر به اكيتا أيضاً، والتفاح هو الفاكهة الطيبة التي تنضج في الخريف، وتشتهر اليابان بنوع خاص منه يعرف بتفاح فوجي وكان من الممتع جداً لنا أن نستطيع أن نقوم بأنفسنا بقطف ثمار التفاح، وأكلها بعد قطفها عن الأشجار، وغالباً فإن الفواكه تكون أطيب مذاقاً إذا ما تناولتها بعد قطفها من الأشجار.

وكما يقول المثال فإن المتفائل ينظر إلى كأس الماء فيراه نصف ممتلئ، أما غير المتفائل فإنه يرى الكأس نصف فارغ، ولعل هذا المثل ينطبق أيضاً على النظرة إلى الخريف، فلا يجوز أن ننظر إله على أنه يحمل تساقط أورق الأشجار فقط، بل يجب النظر إلى جمال أوراق الخريف قبل تساقطها فتكون متعة للقلب كالعيون.


إضافة لذلك، فإننا ننظر إلى تساقط أوراق الأشجار في الخريف كمقدم لنمو أوراق جديدة خضراء جديدة مع تفتح أزهار الأشجار كنوار الكرز وغيره في الربيع، فالجمال يؤدي إلى الجمال، وكل ما يتطلبه الأمر أن ننظر إلى الأمور بتفاؤل داخلي، وكما قال الشاعر العربي المهجري:

والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً

فالخريف إذن فيه جمال الطبيعة، وفي معظم الأحيان جمال ورقة في الطقس الذي عادة ما يكون لطيفاً وممتعاً قبل قدوم برد الشتاء، إضافة فإن الكثير من الفواكه التي نحب كالتفاح والكاكي وغيرها إنما تنمو في الخريف.

فإذا أضفنا إلى ذلك كله، جمال في النفس والنظرة إلى الأمور والحياة، أصبح الخريف كالربيع جميلاً ويستحق قصائد الغزل فيه أيضاً.

الأستاذ سمير الناعوري- سفير المملكة الأردنية الهاشمية سابقاً في اليابان

بان اورينت نيوز



رأي