حنينٌ إلى أحلى سنواتِ العمرِ في اليابان -2-
مدريد- الأحد 18 نوفمبر 2012
بقلم الأديب محمد بشير علي كردي
خاص لوكالة بان اورينت نيوز
غادرت أوساكا مستقلاًّ قطار "الطلقة" السريع المعروف باسم "شنكانسين" في طريقي إلى ناجويا. ما أن جلست في المقعد في العربة التاسعة، حتَّى عاودت مخيَّلتي وقائعُ أوَّل رحلة لي من أوساكا في "شينكانسين" عام 1964 إلى جنوب اليابان بصحبة الصديق سايشو سان للتمتُّع بركوب أسرع قطار في العالم. يومها، أخذت وسايشو سان أرخص التذاكر لقلَّة ما في اليد، وأسرعنا إلى عربة الكافتيريا وبين أيدينا مجموعة من الصحف والمجلاَّت لتمضية الوقت بقراءتها، وعدنا إلى طوكيو في اليوم ذاته.
مع الاقتراب من ناجويا، عادت لمخيَّلتي ذكريات زيارتي الأولى لهذه المدينة 1998 بترتيب مشكور من رجل الأعمال السعودي الشيخ محمَّد عبد اللطيف جميل، وكيل تويوتا في العديد من بلدان العالم.
يومها أخذت قطار شنكانسين من طوكيو، وأمضيت ليلتي في ناجويا. في صباح اليوم التالي، قصدت مدينة تويوتا حيث مصانع السيَّارات التي تحمل اسمها. في تلك الزيارة، وقفت على سرِّ اتقان الياباني عمله وإخلاصه للشركة التي يعمل لديها. وصلت المصنع على الساعة الثامنة صباحًا، وقت دخول العمَّال. كان رئيس الشركة وكبار المديرين يحيُّون العمَّال بالانحناءة التقليديَّة عند دخولهم. ذلك اليوم، كان يوم تقديم الرئيس تقريرًا عن أداء الشركة خلال الشهر المنصرم. بدأ اليوم بتمارين الصباح الرياضيَّة، بعدها حدَّثهم رئيس الشركة عن سير أعمالها ومقدِّمًا بالأرقام ما حقَّقه جهدهم من إنتاج خلال المدَّة الماضية. ختم حديثه طالبًا من كلِّ عامل لديه ملاحظة على أسلوب سير شريط التصنيع أو فكرة من شأنها أن تعطي مزيدًا من الجودة أن يتقدَّم بها إلى رئيسه لدراستها، وإذا ما أثبتت فعاليَّتها، فستأخذ الشركة بها، وينال مقدِّمها درجة أعلى في سلَّم الوظيفة لأنَّ مَن يتابع بقلبه ويديه الشريط المتحرِّك للتصنيع، أقدر من المهندس المصمِّم على استنباط أفكار لتطوير الانتاج والرفع من جودته. بعدها جلس الرئيس مع العمَّال لتناول وجبة الفطور، وودَّعهم مع دقَّات الجرس معلنة بدأ دورة العمل.
توقَّف شريط الذكريات مع إذاعة ما يفيد بقرب توقُّف القطار في مدينة ناجويا. على الرصيف أمام القاطرة رقم 9، كان الصديق كومادا سان والسيِّدة حرمه بالانتظار، استقبلاني بحرارة صادقة. ما يصدر من القلب يصل إلى القلب، والصداقة الصادقة أكثر ما وجدتها لدى اليابانيِّين. معرفتي بالسيِّد كومادا وحرمه تعود إلى بداية مهمَّتي سفيرًا لبلدي لدى اليابان. فقد كان من المديرين المميَّزين لشركة تويوتا، ووقتها كان مكلفا بأسواق الشرق الأوسط، وأهمُّها السوق السعوديَّة. انتقلت بصحبتهما إلى مطعم ياباني، تناولنا فيه وجبة متقنة وشهيَّة، وكان بيننا حديث متشعِّب، عرفت منه أنَّه يشرف الآن على أسواق كوريا الجنوبيَّة والصين. تطرَّقنا إلى الأحوال في ضوء الأزمة الاقتصاديَّة العالميَّة وتداعيات الربيع العربي. عدت بصحبتهما إلى محطَّة شنكانسين، وإلى العربة رقم 9 لمتابعة الطريق إلى طوكيو مودَّعًا بالحرارة والمودَّة اللتين استُقبلت بهما، وعلى وعد بلقاءات قادمة.
مع تحرُّك القطار، أخذت أتخيَّل ما سيكون عليه الحال عندما تنعم بلدنا بشبكة قطارات كالشنكانسين الذي تصل سرعته الوسطى إلى ثلاثمائة كيلو مترًا في الساعة، وينقل في كلِّ رحلة ما يقارب الألفي راكب، وأمامي على لوحة حركة القطارات رحلات متتابعة إلى طوكيو كلَّ عشرين دقيقة. وقفة القطار في كلِّ محطَّة لا تتعدَّى الثلاث دقائق، يتمُّ خلالها تهيئة المقاعد للركَّاب الجدد بسرعة فائقة خلال خروج مَن وصل إلى محطَّته ودخول مَن يقصد محطَّات قادمة. ترى كم من الزمن سننتظر حتَّى يكون لدى مجتمعنا من الانضباط واحترام الوقت ما يمكِّن القادمين والمغادرين من دخول القاطرات والخروج منها في ثلاث دقائق، لا بل في خمس دقائق! سؤال أتركه للزمن.
وصل القطار المحطَّة الرئيسة في طوكيو، لألقى في استقبالي على رصيف المحطِّة السيِّدة تسوكاموتو سان التي عملت معي في العلاقات العامَّة للسفارة، وعلى بوَّابة المحطَّة ويهارا سان من منسوبي السفارة. كانا وما يزلان رمزًا للوفاء والإخلاص، سِمَتين مِن سمات اليابانيِّين في صداقتهم. معهما انتقلت إلى نيو أوتاني هوتيل مقرٍّ إقامتي الدائم قبل الانتقال إلى المبنى الحالي. تلقَّيت تحيَّة موظَّفي قسم الاستقبال كما لو كنت ما أزال السفير المقيم عندهم في الرويال سويت. ووجدت في غرفتي سبت فاكهة مع بطاقة ترحيب من مديرهم كاواي سان. في هذه اللحظة اختفت السنوات التي مرَّت سريعًا، وعاودني شعور بأنَّني لم أغب طويلاً عن طوكيو. شعور لا يخامرني إلاَّ عندما أعود لفتح باب منزلي في المدينة المنوَّرة. ربَّما استجابة لدعاء مأثورٍ في آيةٍ مِن الذكرِ في كتابٍ مكنونٍ: ﴿إنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرْآنَ لَرَادَّكَ إِلَى مِعَادٍ﴾ كان الوالد يرحمه الله قد أوصاني بتريدده كلَّما أغادر البيت.
في اليوم التالي من وصولي طوكيو، قصدت دار السفارة، وهناك احتفى بمقدمي سعادة السفير الدكتور عبد العزيز تركستاني بحضور سعادة الملحق الثقافي الدكتور عصام بخاري وأعضاء السفارة والملحق العسكري السعودي العميد عبد الله الحربي ورئيس مكتب أرامكو الأستاذ أحمد الخنيني والدكتور سعد الخطيب الابن بالاختيار، وجمع قارب المائة من الأصدقاء جلُّهم من اليابانيِّين. وكعادة اليابانيِّين في تبادل الكلمات في المناسبات، تحدَّث عشرات المُستقبلين، مؤكِّدين رصيدي من الأصدقاء كعهدي بهم في وقت يشهد سوق المال والاقتصاد تدهورًا ترك كلَّ مَن تلقاه يشكو دهره. غير أنَّ شكوى أصدقائي اليابانيِّين كانت "غير!". هم يتحدَّثون بلسان المُستسلم لقضاء الله وقدره، لكنَّهم واثقون من أنَّهم يقتربون من القضاء على تداعيات تسونامي وزلزال الشمال، وتصدُّع مفاعلات فوكوشيما النوويَّة، وهنا تكمن العظمة. تطلُّع إلى الأمام وأملٌّ في المستقبل.
الكرم والحفاوة ممَّن لقيتهم مِن الصحب، وعلى الخصوص ممَّن لهم في القلب كلَّ الودِّ والمحبَّة كان تأكيدًا لمقولة أنَّ "على كلِّ دبلوماسي أن يترك دارًا في كلِّ بلدٍ عمل فيه." والله أسأل أن يديم المعروف ويبقي على الودِّ والصداقة بيني وبين أحبَّتي.
محمَّد بشير بن علي كردي سفير المملكة العربية السعودية سابقاً في اليابان
بان اورينت نيوز