الدراهم مراهم
مدريد – الاثنين 30 يوليو 2012
بقلم الأديب محمد بشير علي كردي
خاص لوكالة بان اورينت نيوز
تسأل بُنَيَّتي عن تداعيات الثروة المفاجئة على أصحابها ومَن حولهم بعد أن سمعت عن أغنياء الطفرة وأغنياء الحروب؟ أجبتها بأنَّ الله قد أفاض على بلدنا بالكثير من خيراته، بداية باختياره أنبيائه ورسله من بين أبناء أمَّتنا ليهدوا البشر إلى عبادة الواحد الأحد، ولينشروا المحبَّة والتعايش بين شعوب الأرض كافَّة على اختلاف معتقداتهم وتعدُّد أعراقهم. وأقام في جزيرتنا العربيَّة بيته الحرام وكعبته المشرَّفة التي ما من نبيٍّ إلاَّ طاف حولها. وفي أيادينا قرآنه الكريم الذي أُنزل على رسولنا محمَّد بن عبد الله بلغتنا العربيَّة. وأفاض علينا حتَّى اليوم بالثروة النفطيَّة وما صاحبها من طفرات ماليَّة رفعت بين ليلة وضحاها نفرًا من بني أمَّتنا من الفقر المدقع إلى الغناء الفاحش.
من أمثلة ذلك أنَّ سائق سيَّارة رغب باستبدال سيَّارته بأخرى، وسمع عن رغبة شخصيَّة اجتماعيَّة مرموقة بيع سيَّارة نقل من أسطول سيَّاراته لاستبدالها بالموديل الجديد، فنُصح بأن يقصد مجلس الشخصيَّة المفتوح للجميع، ويتفاوض معه على القيمة. وما أن دخل على المجلس حتَّى وجد الحضور أمام مزاد بدأ بعشرة ومن ثمَّ خمسة عشر فعشرين فخمسة وعشرين فثلاثين، فإذا به يصيح: عليَّ بخمسة وثلاثين.
نظر إليه الحضور باستغراب لهندامه شبه البالي، ولعدم معرفتهم مَن يكون. رسا عليه المزاد، فاستأذن للذهاب إلى سيَّارته لإحضار المبلغ، خمسة وثلاثين ألف ريال كلَّ ما يملكه من مال. لحق به أحد المشاركين في المزاد عارضًا عليه ألفين مقابل تنازله عن المزاد. قدَّر صاحبنا أنَّ كسب ألفي ريال أفضل من شراء السيَّارة، فقبل. قدَّم له الآخر شيكًا بمليوني ريال. فالمزاد كان على أرض تملكها الشخصيَّة والمزايدة على السيَّارة بالملايين وليس بالألوف كما ظنَّ صاحبنا!
وهكذا بين طرفة عين وانتباهتها، صار السائق مليونيرًا، وسرعان ما أتقن لعبة المزادات، وتضاعفت ثروته، فمنحه مدير البنك لقب "الشيخ". مثل صاحبنا كثرٌ ممَّن رفعتهم مضاربات الأراضي من الفاقة المُدقعة إلى الغنى الفاحش، ولا اعتراض على ذلك، فنصيبكم يصيبكم، والله هو الرزَّاق.
الاعتراض هو على مَن أغوتهم المادَّة، فتصرَّفوا تصرُّفًا منافيًا للأخلاق والتعاليم الدينيَّة، فأفسدوا حيثما حلُّوا وتجبَّروا وتكبَّروا حيثما أقاموا.
من أمثال هؤلاء، شخص دخل برفقة صديق عزيز على مجلسنا الأسبوعي وأنا على رأس عملي في الجنوب الإسباني. كان المجلس مزدحمًا بالحضور، فلم اتمكَّن من التعرُّف إليه. بعد قليل، تصدَّر الحديث ليخبر الحضور بقصَّة لقائه الأخير مع "سعود" في القاهرة، وما دار بينهما من حديث عن العلاقات العربيَّة ودور المملكة الرائد، وأنَّه قدَّم إلى "سعود" النصح والمشورة في عدد من المواضيع الهامَّة.
بعدها، قمنا إلى مائدة العشاء، وأخذت مقعدي بجانب الصديق العزيز. سألته عمَّن يكون الشخص الذي حضر معه، ومَن هو "سعود" الذي تحدَّث إليه ناصحًا وموجِّهًا؟ استغرب صديقي السؤال. ففي تقديره أننَّي أعرفه من اليوم الأوَّل لالتحاقي بوزارة الخارجيَّة عام 1380 هجريَّة (1960 ميلاديَّة). فهو عامل الصيانة ومَن كان يتلقط رزقه من شراء سيَّارات المنقولين من الوزارة إلى بعثات المملكة في الخارج. اغتنم الطفرة العقاريَّة في سبعينيَّات القرن الماضي، فبدأ العمل سمسارًا للعقار بعد الدوام، ومن ثمَّ مروِّجًا للمخطَّطات، فشريكًا بنسبة عند البيع. وهكذا، خلال سنتين كنز من الملايين ما متَّعه بلقب "الشيخ"، وانطبق عليه قول الشاعر:
إِنَّ الدَّرَاهِمَ كَالمَرَاهِمِ تُجْبِرُ العَظْمَ الكَسِيْرَا لَوْ نَالَهُنَّ ثُعَيْلِبٌ فِي صُبْحِهِ أَضْحَى أَمِيْرَا
وها أنت تراه وقد رفع الكلفة عند الإشارة إلى اسم صاحب سموٍّ ملكيٍّ، ولفَّق حوارًا بينه وبين رجل السياسة المحنَّك في عالمينا العربي والإسلامي، ليجذب أنظار الحضور، وغالبيَّتهم من الإسبان ومِن زوَّار شاطئ الشمس من العديد من البلدان. هؤلاء لديهم أدب الاستماع، فلم يقاطعوه لكون حديثه خارج اهتماماتهم. ولو سأله أحدهم تفصيل ما قاله لكشف جهله وكذب إدِّعائه.
هذا خلاف العديد ممَّن هوت بهم المادة إلى البذخ وارتياد أماكن اللهو والمتعة وهم يتجوَّلون بين العديد من عواصم العالم، واستبدلوا شريكات دربهم وأمَّهات أبنائهم بأخريات فاتنات كاسيات عاريات، فأساءوا إلى أنفسهم وأسرهم ومجتمعهم.
ثمَّنت بُنَيَّتي ما سردته عليها، وأنهت الحديث بقولها، صدق من قال: "المال نعمة ونقمة."
محمَّد بشير علي كردي سفير سابق للمملكة العربية السعودية في اليابان
بان اورينت نيوز