شخصيَّات خالدة في الذاكرة: أمير إمبراطوري ياباني بالزي السعودي

في مكتب الدبلوماسي شونجي ياناي: جلسة تقديم خطاب الإعتماد تنتهي بوضع خارطة طريق لتعزيز علاقات طوكيو-الرياض

مدريد – الأحد 27 مايو 2012
بقلم الأديب محمد بشير علي كردي
خاص لوكالة بان اورينت نيوز

تواصل بُنَيَّتي طريقتها في تتبُّع ما يدور في خاطري من ذكريات كلَّما لَمَحَتْ في وجهي ما يفيد بسرحان إلى الماضي. تعطيني الوقت الكافي للتمتُّع بالذكريات ومن بعد، بلمسة حبٍّ وحنان، تسأل عمَّن استعادت الذاكرة أطيافهم من أصدقاء الماضي! وتجيب مؤكِّدة بأنَّهم من اليابان.

فقد تركت عندي من رصيد ذكريات لم تدانيه في كمِّيَّته ونوعيَّته ذكريات عملي في تايبيه واستكهولم ومدريد وماربيَّا.

وبإجابة فيها من الحنين والاطمئنان، قلت نعم، كنت في اليابان، مع السيِّد شونجي ياناي، وكيل وزارة الخارجيَّة اليابانيَّة، إنسان ما أزال أكنُّ له كلَّ الودِّ والتقدير، فقد كان السبب في العشاء الشهري المفتوح الذي أثمر عن اكتساب السفارة العديد من الشخصيَّات اليابانيَّة.

تمَّ التعارف بيننا في اليوم التالي لوصولي طوكيو ربيع عام 1998 وأنا أزور مبنى وزارة الخارجيَّة لتقديم صورة من خطاب الاعتماد. لقيتُ منه يومها كلَّ الودِّ والترحاب. شرح لي ببساطة ويسر طريقة عمل الوزارة عن المذكِّرات التي تقدِّمها البعثات الدبلوماسيَّة الأجنبيَّة المعتمدة لدى اليابان. قال بأنَّ المذكرة تنتقل مباشرة من قمَّة الهرم إلى قاعدته، ليتولَّى شباب من الدبلوماسيِّين والفنيِّين والإداريِّين دراسة المعاملة التي أحيلت لهم وتمحيصها. يدوِّنون ما توصَّلوا إليه من رؤية حيال موضوع المذكرة، وترفع إلى الرئيس المباشر الذي يدقِّقها ويحيلها لرؤساء الأقسام المعنيَّة سياسيَّة كانت أو اقتصاديَّة أو ثقافيَّة لإبداء الرأي. وفي ضوء ما تستقرُّ عليه رؤية المعنيِّين في الوزارة، تُرفع توصية لوكيل الوزارة المختصِّ لاعتمادها وتبليغ البعثة الدبلوماسيَّة بما تمَّ حيال المذكَّرة.

نصحني بأن أبني علاقات تعارف وصداقة مع شباب الوزارة، ولا سيَّما مَن بِعُهدتهم ملفُّ العلاقات بالمملكة. من مكتب الشاب المُختصِّ تتوقَّف على ملاحظاته إيجابيَّة الردِّ أو سلبيَّته. وأضاف ما لست أجهله من سلبيَّات رتابة العمل في الوزارات والمؤسَّسات الحكوميَّة، مبديًا استعداده للمساعدة، وتتبُّع سير المذكَّرات التي ترفعها السفارة لوزارته.

اتَّفقنا على أن نتناوب معًا في غداء شهريٍّ، نلتقي فيه في أحد المطاعم لتبادل الرأي في مجريات الأمور وفي المواضيع قيد الدرس التي ترفعها السفارة لوزارته.

من ثمرات ذلك الغداء المتبادل أن توثَّقت العلاقات برئيس إدارة الشرق الأوسط وأفريقيا، واتِّفاق على فطور عمل في دار السفارة مرَّتين كلَّ شهر على الأقل، أو كلَّما دعت الحاجة لبحث مواضيع متعلَّقة أو مؤجَّلة بسبب رتابة إجراءات العمل.

كان اللقاء يبدأ على الساعة السابعة والنصف صباحًا وينتهي على الساعة الثامنة وخمسة وأربعين دقيقة ليتمكَّن من الوصول إلى مكتبه في الوزارة على الساعة التاسعة صباحًا.

وكان من ثمرات هذا اللقاء أيضًا تسهيل إجراءات التفاوض على شراء مبنى السفارة الحالي من الهيئة الرسميَّة المكلَّفة ببيع العقارات المرهونة لدى بنوك أفلست بعد إفلاس الشركات التي استثمرت في تلك العقارات، دون دخول السفارة في مزاد علني. فقد أتاح ذلك الفرصة لاستكمال اجراءات البيع ونقل الملكيَّة قبيل الزيارة الرسميَّة لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود إلى طوكيو في صيف عام 1998 (كان جلالته آنذاك وليًّا للعهد)، فكان حفل افتتاح المبني ضمن برنامج الزيارة ورفع علم المملكة فوق واحد من أفخم مباني السفارات في طوكيو، وفي واحد من أرقى أحيائها.

من ثمرات الغداء الشهري بالتناوب، كان الاتِّفاق على إقامة السفارة عشاء مفتوحًا مع نهاية كلِّ شهر يُدعى له في البداية شخصيَّات مرموقة من شرائح المجتمع الياباني لتوسيع دائرة أصدقاء السفارة، ومن ثمَّ يُطلب من كلِّ المدعوِّين اصطحاب واحدٍ أو أكثر من معارفه في اللقاء القادم. وبهذا تضاعف عدد حضور اللقاء الثاني وازداد عددًا وتنوُّعًا في اللقاءات التي تلت، فقد تجاوز العدد مائة شخصيَّة، بعضهم قدموا من مدن شمال اليابان وجنوبه.

من بين شخصيَّات اللقاء الشهري الذين تخطر بين الفينة والأخرى ذكرياتهم، البروفسور كاواشيما والد حرم الأمير أكيشينو الابن الثاني لصاحبي الجلالة الإمبراطور وإمبراطورة اليابان. استقبلته يوم الحفل المفتوح وأنا مرتديًا الزيِّ السعودي، فأبدى استحسانه لبساطة اللباس وأناقته. عرضت عليه الدخول على الحضور بملابس مماثلة، فقبل بفرح. دخل عليهم والجميع يرون في القادم شخصيَّة سعوديَّة إلى أن كشف لسانه عن شخصيَّته، وعرفوا أنَّه البروفسور كاواشيما. ودار بينه وبينهم حديث شيِّق عن زيارته لمنطقة عسير، وعن دراسته وبحثه العلمي في تاريخ تلك المنطقة الواقعة جنوب غربي المملكة وتراثها وأصالتها وعراقتها.

مع انتهاء الحفل، طلبت منه أن يحتفظ بما عليه من ملابس هديَّة له من السفارة. قبلها شاكرًا وأبدى رغبة في التوجُّه مباشرة إلى مجمع قصور العائلة الإمبراطوريَّة بملابسه العربيَّة ليفاجئ الحرس، ومن ثمَّ ابنته وزوجها الأمير أكيشينو. كانت تلك المفاجئة حديث المجتمع في الأيَّام التي تلت تلك الأمسية.

ولأنَّ الذاكرة تنتقل بنا بدون إذن أو مقدِّمات، وقبل أن توقفتني بُنَيَّتي عن السرحان مع الصديق العزيز السيِّد شونجي ياناي، وكيل وزارة الخارجيَّة، ومن بعد سفير اليابان لدى الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، وعُيِّن بعد التقاعد مديرًا لواحدٍ من مكاتب شركة متسوبيشي الكتريك اليابان، وكذلك مديرًا مستقلاًّ لشركة نيفكو.

ومع انفراد السيِّد ياناي بمنزلة حميمة في الذاكرة، فإن للبروفسور كاواشيما والكثيرين غيره مكانًا رحبًا فيها، ولهم جميعًا كلَّ الودِّ والتقدير.

محمَّد بشير علي كردي أديب وسفير سابق للمملكة العربية السعودية في اليابان

بان اورينت نيوز


عزاء لليابان: فبراير. 01


رأي