سرحان جميل في دوائر البروفسور إيتاجاكي
مدريد- الاربعاء 2 مايو 2012
بقلم محمَّد بشير علي كردي
خاص لوكالة بان اورينت نيوز
يبقى المتقاعد من أمثالي أسير الماضي وذكرياته. تطوف، من وقت لآخر، بخياله صور أحداث مرَّت وانقضت، فيسرح مع أطيافها دون استئذان مَن حوله مِن الأهل والصحب، فيثير قلقهم من أن يكون هذا السرحان بادرة من أمراض الشيخوخة لا تُحمد عقباه.
كثيرًا ما تعاودني أطياف الماضي لأجد نفسي داخل بيت العائلة في المدينة المنوَّرة أتابع حركة الوالدة وهي تجدُّ لإنجاز وجبة الغداء مع موعد عودة الوالد من الحرم محمَّلاً بأرغفة عيش الحبِّ الساخنة من فرن الكعكي. وينقلني الخيال إلى محطَّات العمل في أرض الله الواسعة التي لي فيها الكثير من الأحداث والمواقف، لأراها كما لو كنت أعايشها الآن.
يتوقَّف شريط الذكريات بلمسة من يد بُنَيَّتي وتساؤل منها: أين كنت؟ ومَن أخذك من مجلسنا؟ أجيبها بابتسامة لا تُخفى معانيها عن أمَّ البنين وقد اجتزنا معًا من الطريق ما قارب الخمسة والخمسين عامًا، وما بقي منه علمه عند ربِّ العالمين!
يبدو أنَّ سرحان اليوم، لم يكن وليد الساعة، فقد تجاوز مرحلة المفاجأة والاختبار، فأصرَّت صغيرتي على معرفة السببب. أجبتها بأنَّها الدوائر! تساءلت عمَّا أعنيه بالدوائر؟ كرَّرت عليها إجابتي بأنَّها الدوائر والبروفسور يوزو إيتاجاكي Itagaki. ولمعرفة صغيرتي بالبروفسور إيتاجاكي اسمًا لا صورة، فقد طلبت مزيدًا من التفصيل عن "دوائري" ودوره فيها! فبمعرفة السبب يزول العجب.
بعد هنيهة صمت، استعدتُ بوضوح لحظة تسلُّمي دعوةً كريمة من الأخ الصديق الأستاذ نبيل إسماعيل فهمي، سفير جمهوريَّة مصر العربيَّة لدى اليابان للمشاركة مع الزملاء سفراء الدول العربيَّة المُعتمدين والمقيمين في طوكيو لتكريم شيخ المستشرقين البروفسور إيتاجاكي وسماع ما لديه عن حضارة الإسلام وتداخلها وتفاعلها مع حضارات القارَّة الآسيويَّة وجزر الشرق الأقصى.
كان اجتماعًا وديًّا مع عالم جليل على درجة راقية من التواضع والتودُّد وقدرة فائقة على شدِّ الحضور كما لو أنَّهم طلبة يجلسون على مقاعد الدراسة يستمعون لمحاضر، ويتمتَّعون بأسلوب تقديمه محاضرته، وتوضيح مفرداتها.
تحدَّث في البداية عن ظهور الإسلام وقيام دولته الأولى في المدينة المنوَّرة. رسم على خارطة العالم القديم التي أحضرها معه الدائرة الأولى حول المدينة المنورَّة. ومن ثمَّ تحدَّث عن تنازع السلطة بين الخليفة الرابع علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه الذي اتَّخذ من الكوفة عاصمة للخلافة وبين الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير المستأثر بحكم مكَّة المكرَّمة، ومن ثمَّ عن صعود نجم أمير بلاد الشام معاوية بن أبي سفيان وتمكُّنه من الخلافة في "عام الجماعة" بعد تنازل الحسن رضي الله عنه، بعد مقتل والده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من جرَّاء تحكيم، لعب فيه القائد عمرو بن العاص دورًا دبلوماسيًّا تغلَّبت فيه الخديعة على الحجَّة. ورسم دوائر صغيرة حول مكَّة المكرَّمة والكوفة، ودائرة أكبر شملت الدوائر السابقة.
وتابع البروفسور حديثه عن الخلافة الأمويَّة وانتشارها في أصقاع العالم القديم بسرعة غير مسبوقة، وتفاعلها هي والخلافة العباسيَّة من بعد مع حضارات العالم القديم من روميَّة وفارسيَّة وهنديَّة وصينيَّة ويونانيَّة راسمًا حول كلِّ حضارة منها دائرة نفوذها. وهكذا، تداخلت دوائر الشرق مع دوائر المدِّ الآتي من الغرب لتنتج حضارة أكثر ثراءً للإنسانيَّة.
كان حديث البروفسور من نوع المختصر المفيد، مركَّزًا على نقاط الالتقاء بين الدوائر المتداخلة وما أعطته كلُّ دائرة للدوائر الأخرى، وما أخذت منها على مرِّ العصور منذ ظهور الإسلام حتَّى سقوط الخلافة العثمانيَّة. أتبع ذلك برسم دوائر للغزو الغربي الذي استهدف العالمين العربي والإسلامي في قارَّتي أفريقية وآسيا وجزر الشرق الأقصى، وزرعه دولة إسرائيل في مفصل تلاقي برِّ مصر ببرِّ الشام ممَّا تسبَّب في تراجع شعوب العالمين العربي والإسلامي عن مراكز تفوُّقهما في وقت صعدت فيه نجوم اليابان والصين وكوريا الجنوبيَّة وماليزيا وسنغافورة وأندونيسيا عاليًا.
نحا البروفسور باللائمة على مجتمعاتنا العربيَّة والإسلاميَّة التي أطالت جلسة "استراحة الخطيب"، فغيَّبتها عن مواكبة عصر الطاقة البخاريَّة وما تبعها من ثورة صناعيَّة اعتمدت على المحرِّكات البخاريَّة في البداية، ومن ثمَّ المولِّدات الكهربائيَّة، وأخيرًا ثورة المعلومات.
أكبرت صغيرتي ما ذكرته عن محاضرة البروفسور إيتاجاكي، وسألت من باب التأكُّد عمَّا إذا كان ما ذكرته الآن هو بالفعل ما تحدَّث به البروفسور ايتاجاكي! أجبتها ملتمسًا العذر فيما سردت، بأنَّ الذاكرة إذا تقادم العهد بما تكنزه من معلومات لم توثَّق خطيًّا في حينه، قد تشوبها الزيادة أو النقصان.
استعادت بُنَيَّتي ما سبق لي أن ذكرته عن ندوة ثقافيَّةSeminar أقامتها وزارة الخارجيَّة اليابانيَّة في عهد وزيرها السيِّد يوهيئي كونو Yohei Kono لدفع تهمة الإرهاب التي روَّجها الغرب عن الإسلام والمسلمين بعد أحداث 11/9 في نيويورك. وسألتْ عمَّا إذا كان مَن نظَّم الندوة وحاضَرَ فيها هو الأستاذ ذاته الذي ألقى المحاضرة على السفراء العرب؟ أجبتُها موافقًا، وله منِّي فائق التحيَّة والتقدير لعلمه وعطائه ولمحافظته على الودِّ بيننا بمواصلته الاتِّصال بي عبر البريد الإلكتروني من وقت لآخر، وكذا للأخ السفير الأستاذ نبيل اسماعيل فهمي داعيًّا له بمزيد من العطاء. فأرض الكنانة بحاجة إلى علمه وخبرته الدبلوماسيَّة في هذه الأيَّام المصيريَّة لا لمصر وحدها، وإنَّما للعالمين العربي والإسلامي.
محمَّد بشير علي كردي أديب وسفير سابق للمملكة العربية السعودية في اليابان
بان اورينت نيوز