سلخ القذافي- بوابة موت في ليبيا بتشجيع المجتمع الدولي
"المجرم ساركوزي يلوح للعالم منتصراً بالإمتيازات النفطية الليبية"
طوكيو – الكاتبة إيتسوكو هاراتا – بان اورينت نيوز
عندما أشرقتْ الشمسُ على كثبان الصحراء الليببة في 20 اكتوبر 2011 كان الزعيم الليبي معمر القذافي يغادر مدينة سرت مع أفراد حاشيته في موكب من 3 عربات لم تلبث إن تعرضت لهجوم من القوات الفرنسية التابعة للناتو. وعندما هرب القذافي مع صديقه أبو بكر يونس وخمسة حراس ولجؤوا إلى أنابيب المجارير، حسب التقارير، لم يتمكنوا من الإختباء طويلاً عن مقاتلي المجلس الانتقالي الليبي الذين سرعان ما عثروا عليهم. ومع هتافات "الله أكبر" انهال المقاتلون بالضرب على القذافي الذي بدا بشعره الأبيض المنفوش مستسلماً لهم. وعندما كنت أرى تلك الصور كان من الصعب أن أتخيل مايفكر به القذافي في تلك اللحظات، لكني تابعتُ صور قتله وبدأتُ بالبكاء.
مقابلتي مع القذافي
عندما سَمع الرئيس الفرنسي ساركوزي من المقاتلين الفرنسيين في الناتو بمقتل القذافي، شرب الشامبانيا وقال بأنه يحتفل بمناسبتين هما ولادة إبنته، ومقتل القذافي. وهكذا احتفل المجتمع الدولي بنهاية القذافي، القائد الذي قيل بأنه كان مكروهاً، لكن كان لديه أيضاً مؤيدين لأنه وقف ضد أمريكا وساعَدَ الدول الضعيفة وأدان اسرائيل التي سرقت أراضي فلسطين.
وأنا من المعجبين بالقذافي الذي استضافني بشكل جيد مع صحفيين عالميين. لقد التقيتًًه في سنة 1988 في خيمة في العزيزية في طرابلس. وآنذاك كان الإنطباع عن القذافي في خيالي أنه الكولونيل الشاب الذي قاد ثورة في عام 1969 . لهذا كنتُ متوترةً خلال انتظاري لإجراء المقابلة. وعندما جاء القذافي إلى الخيمة، قلتُ "وصل السوبر الستار (النجم)". وكان يرتدي ملابس غير رسمية وصندلاً إيطالياً. وبعد مرور ساعة على اللقاء استخدم القذافي المروحة اليابانية التي جلبتُها له هدية. ومزح معي منتقداً لغتي العربية، وانتهى الإجتماع بجو مرح ضحكنا فيه جميعاً. ولم أشعر آنذاك بأنه ديكتاتور بل شعرت بالشخصية الجذابة "لهذا الثوري البريء المظهر". وعندها قررت كتابة تاريخ حياته.
لكن يبدو أنه كان قليل الصبر (في إنتظار الكتاب). وإذا تضمن الكتاب بعض المعلومات غير الدقيقة فقد يشعر بالغضب لهذا لم يكن بداً من أن أزور ليبيا عدة مرات للإجتماع مع شخصيات يعرفون القذافي. وهكذا بعد نشر الكتاب عن حياة القذافي، إجتمعتُ معه عدة مرات، واستمعت لرأيه عن العالم وبقية القضايا. واستخلصت أنه على الأقل يقف مع الدول الضعيفة في العالم الثالث ولاسيما خلال فترة التسعينيات.
ذروة أمجاد القذافي
في 9 سبتمبر 1999 كان القذافي في ذروة أمجاده. وأمام نحو 50 قائد افريقي كرر شعار "أفريقيا واحدة". وفي العرض العسكري في طرابلس قال بأن القوات الليبية هي لأجل الأفريقيين. وحاول القذافي أن يصبح قائد الدول العربية، لكن الجامعة العربية أفشلت مساعيه. ثم حاول أن يصبح قائداً لدول شمال أفريقيا فنظروا إليه بازدراء. وفي النهاية حصل على تشجيع الأفارقة السود مقابل مساعدات مالية ليبية.
آنذاك ألف القذافي بعض الكتب والروايات القصيرة وأعطاني نسخة كانت كتاباً صغيراً فيه الكثير من الصور وعنوانه "قرى... وأراضي" وفيه 13 قصة صغيرة من نوع قصص الأمير الصغير The Little Prince التي كتبها مؤلف فرنسي.
وعندما بدأت حملة كراهية عالمية ضد صدام حسين تلاها الهجوم الأمريكي على العراق قال لي القذافي في أحد اللقاءات "صدام حسين غبي... هل يحاول تدمير العراق والشعب العراقي؟". وبأي حال انتقل اهتمام وسائل الإعلام الدولية إلى صدام حسين ومحاصرته. وعندما عقد القذافي مؤتمراً صحفياً لم تحضره معظم وسائل الإعلام مما أدى لشعور الزعيم الليبي بالإستياء. وهكذا تجاهلت الدول الغربية القذافي وحاولت الإتصال بابنه سيف الاسلام وكانت تعقد صفقات معه من وراء الكواليس تتعلق بامتيازات نفطية مقابل رفع العقوبات على ليبيا.
القذافي يغير موقفه
في نهاية القرن الواحد والعشرين كانت تعليقات القذافي ومواقفه تتغير بعد أن باع للدول الغربية (عبد الباسط) المقرحي المشتبه بتورطه في حادثة لوكروبي. وتفجير تلك الطائرة كانت هجوماً إرهابياً حصل فوق اسكتلندة في سنة 1988. واتهمت أمريكا وبريطانيا ليبيا بتنفيذ تلك العملية الإرهابية. لكن رفضت ليبيا تسليم المقرحي وهكذا تعرضت لعقوبات من المجتمع الدولي استمرت 10 سنوات أنهكت نظام القذافي الذي لم يعد بإمكانه التحمل فقرر تسليم المقرحي.
وبعد عام 2000 لاحظت تغيرات على وجه القذافي الذي انتفخ. كما بدأ يدلي بتصريحات خاطئة، ويرتدي ملابس زاهية. وتخلى عنه الكثير من المعجبين وأنا منهم.
وفي سنة 2001 زار إبنه الثالث الساعدي اليابان خلال شهر عسل كممثل للقذافي. وخلال الزيارة قال بأنه يريد عقد مؤتمر صحفي مع اليابانيين. وهكذا نظمتُ له مؤتمراً صحفياً لكن في صباح اليوم المقرر فاجأني الساعدي بالقول أنه سيغادر اليابان بعد الظهر ولهذا قرر إلغاء ذلك المؤتمر. ولم يكن أمامي سوى أن أعتذر لزملائي الصحفيين والمدعويين الذين كانوا يستعدون للحضور. لكن بنفس اليوم وبعد الظهر علمت بأن الساعدي القذافي لم يغادر اليابان. واتصل بي وقال سيعقد المؤتمر الصحفي في اليوم التالي. وشعرتُ عندها بالإستياء لكن لم أتمكن من تجاهل الأمر وهكذا نظمتُ المؤتمر الصحفي ثانية بعد أن اتصلت بالصحفيين. أما ابنة القذافي، عائشة، فقد رافقت أخيها في تلك الزيارة وكانت تتردد كثيراً على نادي الرياضة واللياقة البندية في فندق نيو أوتاني.
القذافي يصمت
المحامي زياد الخصاونة، الذي كان من المدافعين عن الرئيس العراقي صدام حسين، قال لي بأن القذافي نسى كلماته عندما كانت القوات الأمريكية والبريطانية تدمر العراق. فعندما رأى القذافي كيف انهار نظام صدام حسين في عام 2003 قرر التخلي عن البرنامج النووي بناء على طلب الدول الغربية، وبهذا الموقف خان القذافي علماء الباكستان، وباع ثوريي العالم الثالث إلى الدول الغربية تحت ذريعة أنه يتعاون في الحرب على الإرهاب. وبسبب جهود إبنه سيف الاسلام من وراء الكواليس أزيلت العقوبات على ليبيا في عام 2003. وبالطبع لم يتم ذلك بدون أن تسرق أمريكا وبريطانيا كميات طائلة من أموال الحكومة الليبية تحت ذريعة التعويضات (لضحايا لوكروبي) وحصلوا على امتيازات بترولية أيضاً.
وهكذا أصبحت نظرية القذافي عن الثورة التي تسترد ثروة النفط من الدول الغربية وتعطيها للشعب الليبي، نظرية عديمة القيمة ولامعنى لها حيث أصبحت الشركات الغربية النفطية تسرح وتمرح في ليبيا. وقد أدرك القذافي ذلك وشعر بالأسى من الفجوة بين القيم الثورية والأمر الواقع. كما بدأ الشعب الليبي بالتململ.
وفي ديسمبر 2006 جرت عملية إعدام صدام حسين، منافس القذافي، شنقاً حتى الموت ليصبح هذا الرئيس العراقي المخلوع بطلاً في العالم العربي لأنه لم يتنازل عن مواقفه حتى خلال لحظات اعدامه، وتحدى أمريكا القوة العظمى. لكن القذافي غير مبادئه وأصبح صامتاً. ونيابة عنه أصبح إبنه سيف المتحدث عندما يتعلق الأمر بقضايا حقوق الإنسان والدمقرطة. ثم أعلن هذا الإبن انفتاح ليبيا على العالم.
وفي مارس من عام 2007 نظمتْ ليبيا مؤتمراً دولياً لدول المتوسط في طرابلس. لكن القذافي تجاهل المؤتمر. وفي كرسي رئيس المؤتمر كان يجلس رجل مجهول لم يتفوه ببنت شفة.
القذافي يبدل مواقفه ثانية
وبعد حل قضية التعويضات التي بلغت 205 مليار ين لضحايا عملية لوكروبي عاد القذافي إلى مواقفه الشرسة وكشر عن أنيابه أمام الدول الغربية. وهكذا طلب في عام 2008 تعويضات من ايطاليا على احتلالها ليبيا. وفي اغسطس من عام 2009 ذهب إبنه سيف لاستقبال المقرحي الذي خرج من سجن اسكتلندة. وفي 1 سبتمبر من عام 2009 أنفق القذافي الكثير من المال على مراسم الذكرى الأربعين للثورة الليبية حيث دعا إليها جميع قادة القبائل الأفريقية وسمى نفسه ملك الملوك في افريقيا بينما كانت الألعاب النارية تنير سماء ليبيا.
ولكن العالم كان يعيش قصة حب مع رجل آخر هو الرئيس الأسود الأمريكي باراك أوباما الذي دخل البيت الأبيض ليصبح أول رئيس أسود للولايات المتحدة. وفي تلك الأجواء لم يكن هناك أحد في العالم يهمه شأن معمر القذافي.
وهكذا كان لابد من العودة. ومن أهم منبر في العالم ألقى القذافي خطاباً تاريخياً يوم 23 سبتمبر 2009 في الأمم المتحدة. ورغم أن المدة الرسمية للخطاب كانت ربع ساعة فقد مددها القذافي إلى ساعة ونصف. وخلالها كان يتحدث بصوت هادر "عاقبوا اسرائيل التي سرقت أراضي الفلسطينيين ودولتهم" و "ميثاق الامم المتحدة عديم الفائدة". وقال الجملة الأخيرة ونسخة الميثاق بيده حيث رماها أمامه بازدراء. ومن الواضح أن مثل هذه التصريحات لاتعجب الدول الغربية التي تريد حكومة ليبية خاضعة لسيطرة الغرب وتعطيه امتيازات نفطية. وبما أن ليبيا دولة تقع أمام القارة الاوربية عى الضفة المقابلة في المتوسط ولديها الكثير من الحقول النفطية التي بحاجة لتطوير، كانت الدول الغربية تريد فرصة سانحة لإزالة وإنهاء نظام القذافي بعد أن عاد وكشر عن أنيابه ثانية.
انتصار ساركوزي- الناتو
وفي 17 فبراير 2011 حصلت ثورة شعبية في بنغازي. وكنتُ عندها أشعر بالشكوك وأتساءل "هل هي ثورة حقاً". فقد كانت هناك أشياء غربية تحصل حيث شاهدت بعض أفراد المقاتلين "الثوريين" يتحدثون الإنكليزية بطلاقة أمام عدسات الكاميرا، وكانوا يرتدون نظارات متطورة وأزياء عسكرية تمثل آخر صرعات الموضة، ولم يبدو ليبيين بل ربما أمريكيين مستَأجرين.
وبأي حال زار باريس رئيس المجلس الإنتقالي مصطفي عبد الجليل وبعدها أصبح الرئيس ساركوزي تحت الأضواء. ورأينا كيف أن حلف الناتو، الذي كان بقيادة أمريكا، يصبح تحت قيادة ساركوزي. كما بدت منظمة الأمم المتحدة وكأنها تابعة لساركوزي تتخذ القرارات بسرعة. وهنا وقع القذافي تحت رحمة استراتيجية ساركوزي، وكان يشعر بالغضب الشديد لأنه تعرض "لخيانة" في بنغازي. وفي 27 فبراير قاد ساركوزي نقاشات الأمم المتحدة لتبني قرار تجميد الممتلكات الليبية. وفي 17 مارس قررت الأمم المتحدة فرض منطقة حظر جوي فوق ليبيا "لحماية المدنيين في بنغازي". وبعدها أصبح الدرب ممهداً في 19 مارس كي يبدأ ساركوزي قيادة هجمات الناتو الجوية على طرابلس.
وفي 23 أغسطس سقطت طرابلس بسبب الهجمات الجوية للناتو والقوات القطرية.
وكان ساركوزي فخوراً جداً عندما قدم مصطفى عبد الجليل ممثلاً للمجلس الإنتقالي أمام مندوبي 66 دولة في باريس في 1 سبتمبر. وآنذاك أعلن ساركوزي بأن المجلس الإنتقالي الليبي والدول التي ساعدت ليبيا على التخلص من نظام القذافي سيحصلون على حصتهم من الممتلكات الليبية المجمدة والمقدرة بقيمة 1,150 ترليون ين. ولم أر في ذلك أكثر من أنه يمكن سرقة النفط والثروات الليبية وحتى أراضي الدول الأخرى بإسم الديمقراطية، ولاسيما إذا كان السارق يمثل عصابة من اللصوص.
عائلة القذافي
القذافي كان يحب لعب كرة القدم مع أبنائه. وسألتُه مرةً "ليس لديك عدد كاف من الأبناء لتشكيل فريق القذافي لكرة القدم" فأجابني ضاحكاً "ألا تعلمين أنه يمكننا اللعب بسبعة لاعبين فقط".
وفي نهاية اكتوبر 2011 قُتل خمسة أعضاء من فريق القذافي. وعائلة القذافي حالياً هي الأب معمر الذي قُتِل في سرت، والأم التي هربت إلى الجزائر، والإبن الأكبر محمد من زوجته الأولى الذي هرب إلى الجزائر مع أمه، والإبن الثاني سيف الذي اعتقل، والساعدي اللاجئ سياسياً في النيجر لكنه تحت الإقامة الجبرية. والإبن الرابع معتصم قُتِلَ مع أبيه في سرت، والإبنة الكبيرة عائشة لاجئة في الجزائر والتي ولدت بنتاً في الجزائر. والإبن الخامس هانيبال طلب اللجوء إلى الجزائر. وسيف العرب قتل في هجمات الناتو في ابريل. والإبن السابع خميس حارب في مصراته قائداً لكتائب خميس وقتل في أغسطس خلال القتال.
وبالطبع القوات الفرنسية تؤكد أنه لاعلاقة لها بحادثة قتل القذافي وبأنهم لم يكونوا يعلمون أنه كان في السيارة التي قصفوها. لكن المجرم الكبير المسؤول عن مقتل القذافي، الرئيس الفرنسي ساركوزي، يلوح بيديه بعقود الإمتيازات النفطية في ليبيا، وبنفوذه القيادي في ليبيا. فهل يمكن أن نسمي عملية قتل نفذتها زمرة بأنها "عملية تحقيق الديمقراطية بقيادة المجتمع الدولي؟".
يبدو أن النظام الملكي الذي انهار منذ 41 عاماً قد عاد إلى ليبيا بعد مقتل القذافي. والنفط الليبي استعادته الرساميل الغربية والأجنبية، وكل شيء عاد إلى نقطة الصفر. فماذا ترك القذافي للشعب الليبي؟
الكاتبة: إيتسيكو هيراتا Itsuko Hirata، صحفية يابانية متخصصة في الشؤون العربية والليبية
الصورة: ايتسكو هيراتا في مقابلة مع معمر القذافي- تصوير: كاوادا
هذه المقالة نشرتها مجلة كوتوبا Kotobaالصادرة باللغة اليابانية- طبعة الشتاء 2012
بان اورينت نيوز تشكر مجلة كوتوبا على السماح بنشر ترجمة غير رسمية لهذه المقالة