أجوبة مقنعة لسؤال مُحيِّرٍ: لماذا يتراجع عدد سكان اليابان؟
الرياض- الإثنين 14 نوفمبر 2011
بقلم الأديب محمد بشير علي كردي- خاص لوكالة بان اورينت نيوز
"الأُذْنُ تَعْشَقُ قَبْلَ العَيْنِ أَحْيَانَا"، وبُنَيَّتي عشقت اليابان لكثرة ما حدَّثتها عن الزمن الجميل الذي قضيته في بلاد مشرق الشمس، ولكثرة ما اختلست النظر على مسوَّدة السيرة الذاتيَّة التي أعدِّها للنشر، وما دوَّنته فيها إبَّان عملي مرَّتين في اليابان، الأولى، والبلاد كانت قد خرجت من حرب حرقت الأخضر واليابس، ومواطنوها يعملون بجدٍّ وعزيمة لتعمير ما دمَّرته الحروب وهدمته الطائرات الغازية. والثانية بعدها بثلاثين عامًا وكانت اليابان في أوج قمَّة الاقتصاد العالمي.
جاءت بُنَيَّتي اليوم وعلى وجهها سمة قلق وحيرة لِما قرأته عن تراجع عدد سكَّان اليابان وتوقُّع انقراض هذا الشعب العظيم في غضون نحو نصف قرنٍ إذا لم يُتدارك الأمر، وتعود الأسرة اليابانيَّة لإنجاب أكثر من طفلين ليتوازى عدد المواليد مع عدد الوفيَّات. وفي حيرتها، سألتْ لِمَ تقتصد الشعوب الراقية في سلوكها والغنيَّة في دخلها في الإنجاب وهي قادرة ماليًّا على إعالة أطفالها! وفي المُقابل، تُسرف الشعوب الفقيرة في الإنجاب وهي عاجزة عن تأمين الحدِّ الأدنى من متطلَّبات الإعاشة؟ وتساءلتْ عمَّا إذا كانت هذه الظاهرة من سمات المجتمع الصناعي، وما وفَّرته تقنية الإنتاج الآلي من قدرة على الاستغناء عن العديد من العمال بلمسة زرٍّ، فاقتصدت الأسرة بالإنجاب لتتفادى البطالة بين الأجيال القادمة، في حين ما تزال المجتمعات الزراعيَّة والنامية تعتمد على سواعد العمَّال وجهدهم اليدوي في نطاق العائلة للاستعاضة عنها بالعمالة المكلفة؟ أم أنَّ خسائر اليابان البشريَّة في الحرب العالميَّة الثانية التي ما تزال ذكرى أيَّامها السوداء تُسرد على الأبناء والأحفاد من جدَّات ما يزلن على قيد الحياة، فتُثير في شابَّات اليوم المخاوف من إنجاب أطفال قد تحصدهم حرب عالميَّة قادمة؟
وكأنَّ ما راود بُنيَّتي من أسئلة واستفسارات لم يُشبع رغبتها في معرفة الإجابات أو الأسباب، استطردت متساءلة، هل خوف الفتاة اليابانيَّة مُرهفة الحسِّ والشعور- ممَّا استنتجته من أحاديث مُسبقة معي عن اليابان - من حياة زوجيَّة غير متكافئة قد تؤدِّي إلى انفصال في مجتمع وفرَّ لها فرص عمل متساوية مع الذكور، أحد أسباب عدم الإنجاب، أو حدِّه قدر المُستطاع! أو ربَّما لتفكُّك الأسرة في المجتمع الصناعي وقد انتشر بنوه وبناته في أرجاء البلاد، ففقدوا كبير العائلة الراعي والموجِّه؟
على غير عادة في الحديث مع بُنيَّتي، لم أمهلها تتابع الأسئلة والاستفسارات، أجبت بأنَّها قد تكون مزيجًا من كلِّ ذلك. وهي ظاهرة لا تقتصر على فتيات اليابان بل تتعدَّاهنَّ إلى فتيات إسكندنافيا في شمال أوروبا، وكلِّ القارَّة تقريبًا، حتَّى هنا في إسبانيا. فالفتيات يقبلن بالعلاقات الآنيَّة العابرة، ويبتعدن عن الرباط المقدَّس.
إصغاء بُنيَّتي لم يوقفها عن متابعة إبداء الرأي، فكمن وجد الجواب، أشارت بحركة من إصبعها للإذن بالكلام، وتابعت بأنَّه ضعف الإيمان في النفوس، وعدم توفُّر تفاسير مرنة وعقلانيَّة لتعاليم السماء التي نزَّلها الله على رسله ليهدوا عباده للتي هي أقوم، وتساعد جيل اليوم على فهم العقيدة وما تدعو إليه من ترابط بين البشر. وأضافت بأنَّ من بين المبرِّرات التي تعزوها لليابانيِّين في عزوفهم عن الإنجاب، قد يكون إصرارهم على نقاء الدم وعدم اختلاطه بدم شعوب أخرى. ومن شأن هذا أن يؤدِّي إلى ضعف الخصوبة. وبهذا تتجلَّى الحكمة الإلهيَّة في الهدي القرآني بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوْبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيْمٌ خَبِيْرٌ﴾.
وتابعتْ بأنَّها قرأت عن الكوريَّات اللاتي تزوَّجن من يابانيِّين حينما احتلَّت اليابان كوريا، ورافقن أزواجهنَّ إلى الجزر اليابانيَّة بعد اندحار اليابان وتخلِّيها عن مستعمراتها، بأنَّ المجتمع الياباني ما يزال يعتبرهنَّ وأبناءهنَّ وبناتهنَّ أجانب مقيمين أو مواطنين من الدرجة الثانية! ألا يكمن جوهر تناقص عدد السكَّان في عدم فتح باب الهجرة؟ التخلِّي عن فكرة نقاء العنصر والدم من شأنه توفير فرص الزواج، ومن ثمَّ الإنجاب للوصول إلى تعادل بين المواليد والمتوفِّين الذي قد يحول دون اندثار هذه الأمَّة العظيمة!
وبنظرة الواثق ممَّا قال، وقد تبدَّدت سمات القلق والحيرة عن محيَّاها، توقَّفت عن الكلام، متوقِّعة ردِّي على ما سمعتُ منها. ضممتها إلى صدري، مردِّدًا في سرِّي: إنَّها غريزة الأمومة وقد أوكل الخالق إليهنَّ مهمَّة الحمل والولادة والتربية والنشأة. وهمستُ في أذنها: لم تبقِ لي يا عزيزتي ما أقوله أو أزيد عليه. وليت اليابانيِّين يدركون حكمة لشاعر عربيٍّ مُغترب:
وَعَلِمْتُ حِيْنَ العِلْمِ لا يُجْديِ الْفَتَى أَنَّ التِي ضَيَّعْتُهَـا كَانَتْ مِعِـي
محمَّد بشير علي كردي: أديب وسفير سابق للمملكة العربية السعودية في اليابان
بان اورينت نيوز