أمام سوشي وساشيمي ويوكان اليابان: كُلْ أولاً وإسألْ ثانياً

عَمان- الإثنين 24 مارس 2014 / بان اورينت نيوز/

بقلم: سمير عيسى الناعوري

عندما ذهبت إلى اليابان للعمل في السفارة الأردنية في طوكيو اعترف بأنه لم يكن لدي فكرة كافية عن الحياة في اليابان، وعما أتوقع أن ألقاه هناك في مختلف نواحي الحياة، ورغم أنني قرأت الكثير عن اليابان إلا أنني أعلم أن هناك دائماً فرقاً بين ما نقرأ وما نجده في الواقع، ولكنني كنت أتبع مبدأ في حياتي أن لا أتوقع الأحسن ولا الأسوأ وإنما أن أكون مستعداً للتعامل بانفتاح مع ما سأجده.

ولعل أول ما واجهته كان قضية الطعام، صحيح أنه يتوفر في طوكيو مطاعم رائعة تقدم أشهى وأفضل المأكولات الأجنبية التي نعرفها، ولكن ما كنت أريد أن أتعرف عليه هو الطعام الياباني نفسه، فأنت لا تستطيع أن تعيش في بلد وأنت تأكل الطعام الذي تعرفه فقط.

واضافة لذلك فإن الأطعمة اليابانية التي كنت أراها في واجهات المطاعم اليابانية التي كنت أمر بها كانت تبدو شهية ومغرية ومع أن مبدأي في الطعام كان كُل أولاً وأسأل تالياً، إلا أنني كنت أود أن أبدأ مع صديق ياباني يقدمني إلى الطعام.

وجاءت المناسبة الأولى، عندما دعاني السمسار الذي ساعدني في إيجاد منزل لتناول طعام الغداء في مطعم ياباني صغير ولكنه متخصص بالدرجة الأولى بالسوشي والساشيمي. وقد سألني أولاً عما إذا كنت مستعدا لتجربة ذلك، مع أن الفترة التي مضت على وصولي إلى اليابان كانت قصيرة فأجبته بأنه لا مانع لدي في أن أجرب، وقد قمت بذلك فعلاً، وأعجبت جداً بهذا الطعام، ولو أنه غريب عما اعتدت عليه من أطعمة خاصة وأن الأسماك والأحياء المائية لم تكن متداولة بشكل جيد في الأردن.

وبعد هذه التجربة ابتدأت في تجربة الأطعمة الأخرى ووجدت الكثير منها لذيذاً وطيباً، ويتبع متعة الطعام طبعاً متعة أكبر بالحياة في البلد نفسه.

وأذكر طرفة هنا، أنني كنت أمر في احد الأسواق ووجدت شيئاً معروضاً في بعضها يشبه الشوكولاته، ولم أعرف ما هو ولكني اعتقدت أنه قد يكون نوع من الشوكولاته اليابانية، فاشتريت واحداً منه، وأخذته إلى المنزل، وعندما تذوقته أعجبني طعمه جداً خاصة وأنني من محبي الحلوى.

وفي صباح اليوم التالي استفسرت من إحدى الموظفات اليابانيات العاملات في السفارة، عما يكون الذي أكلته وفوجئت بالموظفة تقول مندهشة هل أكلت القطعة بكاملها دفعة واحدة فقلت نعم، وإذا بالموظفة تدعو بقية الموظفين اليابانيين في السفارة لتحدثهم بذلك، وكانوا جميعهم مصابين بالدهشة. فسألت ما الغريب فيما فعلت وما هي الحلوى التي أكلتها، فأجابوني بأن اسمها اليوكان وان هذه الحلوى تستعمل بشكل رئيسي لتناول قطعة صغيرة منها مع الشاي الياباني لأن الشاي يتم تناوله دون إضافة السكر إليه، وعليه فإن ما أكلته في جلسة واحدة قد تستعمله عائلة كاملة لعدة أيام.

وطبعاً أجبتُ بأنني فهمت ما قلتم ولكني سأستمر في تناول اليوكان وبقطعة كبيرة كاملة منه وعندما اكون وحدي وقد بقيت على ذلك، خاصة بعد أن علمت بان هذه الحلوى مصنوعة من حبوب الصويا الحمراء دون إضافة مواد كالزبدة إليها، وما زلت مغرماً باليوكان إضافة لذلك فعندما أحضرت بعض اليوكان كهدية لأهلي عند عودتي إلى الأردن في الإجازة، فقد أحبه أهلي أيضاً، ولكنهم مثلي يتناولونه على الطريق الأردنية.

وعندما عدت في أول إجازة لي إلى عمان من اليابان سألني الأهل والأصدقاء ماذا تأكل في اليابان فأبلغتهم بأن طعامي المفضل هو السوشي والساشيمي وشرحت لهم ما هو، فأجابوني باستغراب كيف تأكل السمك النيء دون طبخ، وبالطبع فقد كنا في الأردن حينها لا نأكل السمك إلا مقلياً أو مطبوخاً في الفرن. وقد أجبتهم في حينها أن هذا الطعام طيب للغاية، وأضفت أننا في الأردن نأكل الكبة النيئة، ونأكل الطحالات النيئة والمطبوخة والكرشات وغيرها من أجزاء الخاروف، ولو أنني أخبرت اليابانيين بذلك فإنهم سيبدون نفس الاستغراب والدهشة، حيث أن لحم الخاروف نفسه لم يكن محبوباً في اليابان فكم بالحري أجزائه الداخلية.

وبالطبع فإننا كنا أحياناً نجابه نفس الاستغراب لدى بعض الزوار الأردنيين الذين كانوا يزورون اليابان عندما نقترح عليهم تناول السوشي وبعض الأطعمة اليابانية الأخرى وكان الكثيرون يرفضون ذلك. وكنا نقول لهم كما قلت لأصدقائي في الأردن بان الناس إذا ما تناولوا طعام بعضهم بعضاً وان اختلفت طريقة عمله، فقد يغيروا رأيهم، ومعه يصبحون أكثر انفتاحاً على بعضهم البعض. وكما يقول المثل العربي ولو انه للمحبين والأزواج" فإن طريق المرأة إلى قلب الرجل تكون عبر معدته، وقد تكون طريقة معرفة الشعوب لبعضها البعض عن طريق المعدة أيضاً.

وكان مدعاة سرور لي في ذلك الوقت أن أجد لحم الخاروف المستورد من استراليا ونيوزيلاندا في احد السوبر ماركت التي كانت تتعامل بالأطعمة الأجنبية وهو كينوكوينا، وكان ثمنه رخيصاً نسبياً لأنه لم يكن محبذاً من قبل اليابانيين، وكنت أشتريه لعمل الطعام الأردني.

وأذكر مرة أن أحد النوادي زارنا طالباً أن نقوم بإقامة احتفال لتقديم أكلتنا الشعبية الأردنية وهي المنسف لأعضائه. وقد شرحت لهم ماهية المنسف وان لحم الخاروف هو الأساس فيه، وقد رحبوا بذلك. وقد فوجئت وكنت أتوقع العكس، بان الحضور قد اقبلوا إقبالاً مذهلاً على أكل المنسف حتى لم يتبق منه شيئاً رغم أننا وضعنا كمية كبيرة منه وأبدى الكثيرون إعجابهم بمذاق الطعام وخاصة لحم الخاروف وقد أثار ذلك دهشتي وارتياحي رغم أن المكونات من لبن خاص ولحم خروف غريبة عن المألوف للأصدقاء اليابانيين. والواقع أنني كنت أقوم بتقديم مأكولات أردنية في دعوات العشاء أو الغداء التي كنت أقيمها للأصدقاء اليابانيين وكان ذلك يلقى قبولاً جيداً منهم وخاصة المقبلات والحلويات.

وعندما عدت إلى اليابان كسفير بعد اثنين وعشرون عاما، وجدت أولاً أن العديد من الزوار الأردنيين قد بداؤا يطلبون إلينا أخذهم إلى مطاعم يابانية لتناول السوشي وهم يبدون إعجابهم الشديد به، وثانياً وجدت أن العديد من مكونات الأطعمة العربية كان يمكن وجودها وشرائها من مختلف السوبر ماركت أو الأسواق وخاصة الملوخية وزيت الزيتون وغيرهما، وفي حين كان من الصعب سابقاً أن نجد زيت الزيتون، فقد أصبح موجوداً وبأنواع عديدة وبوفرة.

وكان الأمر الأغرب أنني عندما عدت إلى الأردن في أول إجازة فوجئت بوجود العديد من المطاعم وخاصة في الفنادق الكبيرة تقدم الأكل الياباني وخاصة السوشي والساشيمي، والأكثر أنني وجدت السوشي يتم تقديمه في حفلات الاستقبال التي تقام في الفنادق وكان الإقبال على تناوله كبيراً ومذهلاً، لا بل أنني علمت بأن بعض التليفزيونات التي كانت تقدم برامج طبخ تدرس كيفية عمل السوشي وكانت هذه الطفرة والتغيير مثيرة ومدهشة لي.

واذكر مرة أنني أقمت حفل عشاء لوفد أردني كبير كان يزور اليابان للمشاركة في مؤتمر ما في احد المطاعم، ورغم أننا قدمنا مأكولات غربية وعربية ضمن قائمة الطعام إلا أننا وضعنا أيضاً أطباقاً من السوشي، وفوجئت بان الإقبال الأكبر كان على السوشي بحيث كنت أطلب إلى المطعم أن يعيد ملء الأطباق عندما تفرغ، وقد تكرر ذلك مراراً، ولكن لم يتبق شيء من السوشي عند انتهاء الحفل وبقي بعض من الأكل العربي والغربي. وقد أثار ذلك إعجابي فكيف تم هذا الانتقال المدهش من سؤالي سابقاً كيف تأكل سمكاً نيئاً غير مطبوخ، إلى هذا الإقبال الكبير على تناول الأطعمة اليابانية وخاصة السوشي. وطبعاً يأتي مع هذا الإقبال على الطعام الياباني قول الناس عندما تسألهم عن أسباب ذلك، أنهم يرون أن الطعام الياباني هو طعام صحي، وأن الشعب الياباني يهتم بأن يأكل ويقدم طعاماً جيداً وطيباً وصحياً، ولا بد أن نتعلم منهم ذلك. وهكذا فقد رأيتنا كيف انتهى الإقبال على تناول الطعام إلى طريقة لتفهم أفضل لطريقة حياة وتفكير اليابانيين.

ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أن الضيوف اليابانيين كانوا يعجبون بالطعام العربي عندما نقدمه في حفلات العشاء والغداء، كذلك كنت ألاحظ أن الضيوف في حفلات الاستقبال التي كانت السفارات العربية تقيمها في الفنادق كانوا يتجهون أولاً إلى الأطعمة العربية أما الملوخية، فإنها لم تصبح طعاماً شعبياً في اليابان فحسب، وإنما تم إدخالها بطرق فنية متعددة في بعض الأطعمة اليابانية، لا بل وان بعض الشركات قد قامت بإنتاج الملوخية كأطعمة جاهزة للطبخ مثل شوربة المنسو اليابانية.

وهنا أيضاً، كان الأصدقاء اليابانيون يسألوننا عن كيفية إعداد بعض الأطعمة والحلويات العربية، وهل هناك أطعمة خاصة بمناطق أو خاصة بمناسبات معينة، وكان يسعدنا أن نشرح لهم ذلك، وكان يسعدنا أن نشرح لهم عن الطعام الأردني المنسف، وكيفية تناوله باليد وماذا يعني ذلك، وكذلك مناسبات تقديمه. وبذلك فإن الحديث عن الطعام يجرنا حتماً إلى تفهم أكثر للعادات والتقاليد المرعية في الأردن كما أن الحديث عن الطعام الياباني يقود إلى تفهم أكثر للعادات والتقاليد اليابانية نفسها، وهكذا فإن تناول الأطعمة والحديث عنها يتحول أيضاً إلى تفهم أفضل بين الشعوب، ويصبح الطعام وسيلة أخرى لحوار الحضارات وتفهم إحداها للأخرى.

الأستاذ سمير الناعوري- سفير المملكة الأردنية الهاشمية سابقاً في اليابان

بان اورينت نيوز



رأي