``الولاء والطاعة`` في اليابان!
مدريد – الإثنين 17 اكتوبر 2011
بقلم الأديب: محمد بشير علي كردي – خاص لوكالة بان اورينت نيوز
ما فَتِئَتْ بُنَيَّتي تلاحقني بأسئلتها عن أولى أيَّامي في اليابان قبل خمسة عقود تقريبًا، لمعرفة المزيد عمَّا أثار اهتمامي وتقديري بأمَّة اليابان بعد أن حدَّثتها عن السيِّد إيكيدا سان، رئيس الوزارة عام 1963 واحتجاج الرأي العام على اختياره لرئاسة الحزب الحاكم والوزارة وهو لمَّا يزل شابًا لا يتجاوز الثالثة والستيِّن عامًا من العمر، وعن السيِّد ياماشيتا سان، ودوره الرائد في بناء الصناعة والاقتصاد، وعن دور الشباب في الوزارات والمؤسَّسات الحكوميَّة والأهليَّة في دراسة ما يقدَّم لهم من رؤسائهم من طلبات للدرس والتمحيص وإبداء الرأي.
في حديثي الثاني معها عن "الولاء والطاعة" الذي يمارسه اليابانيُّون بكلِّ الحبِّ والالتزام، عرَّجت على مناسبة استعداد طوكيو للألعاب الأولومبيَّة عام 1964 التي جاءت بمثابة إعلان عن استعادة اليابان عافيتها بعد الحرب المدمِّرة التي قضت على بنيتها التحتيَّة وأحرقت الأخضر واليابس، وحصدت أرواح الملايين من خيرة رجالها ونسائها، وانتهت بقنبلتين ذُرِّيَّتين ألقيتا على مدينتي هيروشيما وناغازاكي بعد استسلام اليابان ورفعها الراية البيضاء.
مع اقتراب موعد الألعاب، كانت طوكيو على مدى الأربعة العشرين ساعة كلَّ يوم ورشة ترميم شاملة للمرافق العامَّة، وبناء قطار مونوريل وطرق معلَّقة تربط المطار بوسط العاصمة وضواحيها حيث الفنادق الرئيسة والملاعب التي ستقام عليها المباريات لتسهيل حركة المرور والتنقُّل بسرعة وسهولة ويُسْر في واحدة من أكثر البلدان ازدحامًا بالبشر والمركبات. كانت العاصمة تشهد نهضة عمرانيَّة مذهلة لتشييد الفنادق الضخمة استعدادًا لاستضافة القادمين من مختلف بلدان العالم لمشاهدة ذلك الحدث العالمي. وقد لفت نظري وجود لوحة أمام كلِّ أساس بناء ضخم لم يكتمل حفره بعد تحدِّد يوم الانتهاء وتسليمه جاهزًا. وبالفعل، وفَّت شركات البناء بالتزاماتها تمامًا.
لم يفُتني الحديث مع بُنَيَّتي عن مشهدٍ ما يزال عالقًا في الذاكرة، ظهور محافظ مدينة طوكيو على شاشة التلفزيون ووسائل الإعلام الأخرى قبل أسابيع قليلة من بدء فعَّاليَّات الأولمبياد، يحثُّ سكَّان طوكيو على البدء بحملة نظافة وتجميل شاملة بما فيها تبييض واجهات البيوت التي سوَّدتها عمليَّات القصف خلال سنوات الحرب، وتجميلها بأصص الزرع والورود. وما هي إلاَّ بضعَ ساعات على خطابه حتَّى خرجت ربَّات البيوت، وجلٌّهنَّ من المتقدِّمات في العمر، لكنس وتنظيف الأزقَّة والشوارع حيث يقيمون، ومن ثمَّ طلي واجهات بيوتهنَّ باللون الأبيض، وتزيين مداخل المنازل والشبايك بأُصص الزرع والورود. وفي أيَّام قليلة أتمَّت طوكيو زينتها، وبدت عروسًا تستعدُّ لحفل زفافها!
ذلك يا بُنَيَّتي، بعض "الولاء والطاعة" الذي أكسب اليابان وشعبها حبِّي وتقديري، ولا ريبَ حبَّ العالم أجمع وتقديره. وطالما أنَّ الشيءَ بالشيءِ يُذكر، فما أزال أذكر أيضًا التوجيهاتِ من والديَّ يرحمهما الله، ومن أساتذتي وأنا على مقاعد الدراسة في مراحلها الأولى، عن ضرورة الظهور بالشكل اللائق والجميل، والحرص على نظافة أجسامنا وبيوتنا وأزقَّة بلدنا وشوارعها، والعناية بالزرع والنباتات لكونها مخلوقاتٍ تتمتَّع بالإحساس، وتُدخلَ البهجة والسرور لتخفِّف من معاناة العمل اليومي، وتوفير المزيد من الأوكسجين لحفظ أجسامنا في صحَّة وسلامة. ولا غرو أن شدَّد ديننا الحنيف على النظافة، وجعلها من الإيمان. وجعل رفع الأذى عن الطريق صدقة.
نظرت بُنَيَّتي إليَّ بعينٍ علتها مسحة حزن وأسُى لتجاهل أغلبيَّتنا العمل بما أمرت به تعاليم ديننا من الحرص على المظهر اللائق ونظافة الفكر والملبس!
محمَّد بشير علي كردي: أديب وسفير سابق للمملكة العربية السعودية في اليابان
بان اورينت نيوز