الشورى والولاء والطاعة، بين اليابان والإسلام
مدريد – الخميس 6 أكتوبر 2011
بقلم محمد بشير علي كردي- خاص لوكالة بان اورينت نيوز
لفت نظرَ بُنَيَّتي شعارُ "الولاء والطاعة" لأولي الأمر الذي يرفعه المناصرون للحاكم في العديد من بلداننا العربيَّة التي يجتاحها تسونامي الحرِّيَّة في الوقت الذي تطالب أغلبيَّة المواطنين برحيل الحاكم ومَن حوله من الطاعمين على مائدته والطامعين في خلافته.
ولطالما سمعتني أُردِّد شعار "الولاء والطاعة" كلَّما تحدَّثت عن سرِّ عظمة اليابان ورقيِّ أخلاق شعبها، وقد سألتني ذات مرَّة عن أوجه الطباق وأوجه الخلاف في تطبيقه عندنا وهناك في اليابان!
أجبتها بأنَّ الولاء والطاعة لولي الأمر، حاكمًا كان أو رئيسًا أو والدًا أو مديرًا مطلبُ جميع الشرائع، تتساوى فيه شرائع السماء وشرائع الأرض. بالولاء والطاعة، تستقيم حياة الأمم والشعوب، ويسود العدل والوئام بين الناس. إنَّه مفهوم محوريٌّ في دستور القرآن الكريم، ومطلب أساس في شريعة الإسلام. ففي خاتمة المطاف، يُرجع إلى ما أمر الله به وما نهى عنه.
ومن الآيات التي تؤكِّد على أهمِّيَّة مفهوم الولاء والطاعة، قوله تعالى في سورة النِّسَاء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا أَطِيْعُوا اللهَ وَأَطِيْعُوا الرَّسُوْلَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِيْ شَيْءٍ فَرُدُّوْهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُوْلِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنْوْنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيْلاً﴾ وفي سورة الحُجُرَات، الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمِ شُعُوْبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيْمٌ خَبِيْرٌ﴾، وَفِي سورة المائِدَةِ قوله تَعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾. ونؤمن بأنَّ قرآننا الكريم هو الجامع الشامل لما سبقه من كتب مقدَّسة أنزلها الله على أنبيائه ورسله ممَّن وردت أسماؤهم في قرآننا الكريم ومَن لم ترد.
وهؤلاء الأنبياء والرسل عرَّفونا بالقول والعمل كيف يكون الولاء والطاعة، وأن لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق. ولمعصية الخالق أوجه عديدة، منها البعد عن التقوى، وتجنُّب العدل بين الرعيَّة في الحقوق والواجبات وعدم الأخذ بمبدأ الشورى. والشورى في مفهوم العصر الذي نعيشه مشاركة الشعب للحاكم في رسم سياسة البلد والتخطيط لتنمية موارده الطبيعيَّة والبشريَّة.
وقد وجدتُ في أخلاق شعب اليابان ما يتطابق ومفهومي لِما جاء في قرآننا الكريم من توجيه لحياة حرَّة وكريمة.
ففي اليابان، كما درست ولمست، حبُّ الوطن من الإيمان، الولاء للإمبراطور، رمز الأمَّة من الإيمان، والولاء لمصدر العلم والمعرفة من الإيمان، والولاء لمصدر الرزق من الإيمان، واحترام الكبير وتوقير الصغير من الإيمان، ومراعاة الجار من الإيمان، والنظافة من الإيمان، والشورى من الإيمان.
ولأنَّ الحديث بالحديث يُذكر، تستحضرني قصَّة عن الشورى وأوَّل لقاء لي في طوكيو جمعني بكبار موظَّفي وزارة الخارجيَّة اليابانيَّة قبل تقديم أوراق اعتمادي لجلالة الإمبراطور. كان اللقاء شخصيًّا إلى مائدة طعام بترتيب من سفير اليابان في المملكة الذي صادف إذ ذاك وجوده في طوكيو، ودعا له وكيل وزارة الخارجيَّة، ومدير إدارة الشرق الأوسط وأفريقيا، وشابًّا في مقتبل العمر.
قدَّمني المضيف لزملائه موظَّفي وزارة الخارجيَّة الذين رحَّبوا بقرب مباشرتي العمل، مؤكِّدين استعدادهم لتقديم كلِّ العون والمساعدة لإنجاح مهمَّتي. وأضاف السفير القادم من الرياض بأنَّ أهمَّ شخصيَّة حول المائدة هو ذاك الشاب المكلَّف بشؤون المملكة في إدارة الشرق الأوسط وأفريقيا. فعنده بداية كلِّ موضوع دراسةً ومتابعةً للتوصُّل إلى الإجابة الصحيحة. وأنَّه وزملاؤه في إدارات الوزارة يعملون فريقًا متكاملاً في دراسة ما يحال إليهم من مواضيع، ويرفعون إلى رؤسائهم المباشرين ما توصَّلوا إليه. وهؤلاء يراجعون الدراسة للتأكُّد من استيفائها حقَّها، ومن ثمَّ يرفعونها لِمُن أرفع منهم درجة حتَّى تصل لوكيل الوزارة فالوزير.
هذا خلافًا لِما عليه الحال في العديد من بلدان العالم حيث يكون التوجيه من الأعلى بما يجب أن تصل إليه الدراسة لإقرارها.
وطلب منِّي أن أوثِّق علاقتي بهؤلاء الشباب، وأتعرَّف إليهم وأعرِّفهم أكثر ببلدي وبما نؤمِّل من اليابان من تعاون ومشاريع. ورجاني ألاَّ أمتعض إذا لم يُستجب طلبي مباشرة في موعد مع وزير الخارجيَّة أو أحد نوَّابه من أجل استعجال دراسة ما تزال بين أيدي الشباب.
وهؤلاء الشباب، قاعدة الهرم، عندهم البداية وعندهم النتيجة. وكلُّ مؤسَّسات اليابان تعتمد الشكل الهرميَّ في دراسة ما لديها من مواضيع وإقرارها. ويتمتَّع مَن هم في القاعدة بالثقة ممَّا يساعدهم على إعطاء ما يوكلون بدراسته حقَّه في الفحص والتمحيص للتوصُّل إلى القرار الصائب المُحقَّق للمصلحة حتَّى يحتفظ رأس الهرم بمنصبه. في مشاركة كهذه، تعتمد على رؤية الشباب، تتماسك طبقات المجتمع ويكون الولاء والطاعة وتكون العلاقة الصحِّيَّة بين الحاكم والمحكوم حيث تأخذ الشورى طريقها في الممارسات اليوميَّة، وكل من موقع عمله.
علَّقت بُنَيَّتي على هذا الشرح بأنَّ مثل هذه الأخلاق التي يمتاز بها اليابانيُّون هي التي مكَّنت المسلمين الأوائل من إيصال رسالة السماء إلى أقاصي العالم. وتمنَّت على المُتشبِّثين بكراسي السلطة رغمًا عن غالبيَّة مواطنيهم أن يعودوا للتحلِّي بما جاء في تراثنا وسير أنبيائنا ومَن تبعهم من الخلفاء الراشدين، ويستجيبوا لمطالب الغالبيَّة، ففي الحديث الشريف: "لا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلالَةٍ." وها هم مِنْ أمَّته صلَّى الله عليه وسلَّم يجتمعون في الساحات والميادين مُطالبين حكَّامهم الرحيل بعد أن ضاق الصدر ونفد الصبر.
محمَّد بشير علي كردي أديب، وسفير سابق للمملكة العربية السعودية في اليابان
بان اورينت نيوز