``هكذا الميكادو قد علَّمنا``
"أمثولة يابانية بمناسبة سعي فلسطين لإقامة دولة على ماتبقى من أراضيها"
مدريد – الجمعة 23 سبتمبر 2011
بقلم الأديب: محمد بشير علي كردي – خاص لوكالة بان اورينت نيوز
تابَعتْ بُنَيَّتي نبش ماضي السنوات التي أمضيتُها في اليابان، وكان لحديثي معها عن ياماشيتا سان وعن توجيه رجال المال والاقتصاد للسياسة فيها ما فتح شهيَّتها لمعرفة المزيد عمَّا تختزنه الذاكرة عن تلك المدَّة الخالدة من مسيرتي على درب العمل الدبلوماسي.
بادَرَتْ بالسؤال عمَّا إذا كانت معرفتي باليابان قد بدأت منذ اليوم الأوَّل لمباشرتي العمل في السفارة صيف عام 1963؟ أجبتها: بلا، فقد عرفت اليابان من درس للغة العربيَّة وأنا في مرحلة الدراسة الابتدائيَّة، كان موضوعه قصيدة الشاعر حافظ إبراهيم، عن فتاة يابانيَّة في المهجر، سمعت بما تعرَّضت له بلدها من عدوان، فقرَّرت العودة لتنضم إلى المقاومة.
وعندما قيل لها بأنها كالظبية الرقيقة لا تقوى على القتال! زاد ذلك من إصرارها، وتمثَّل ردَّها حافظ إبراهيم، شاعر وادي النيل بقصيدة خالدة:
إِنَّ قَوْمِي اسْتَعْذَبُوا وِرْدَ الرَّدَى / كَيْفَ تَـدْعُوْنِـيَ أَلاَّ أَشْـرَبَا
أنَـــــا يَـابَـانِـــــيَّةٌ لا أَنْثَنِـي / عـنْ مُرَادِيْ أَوْ أَذُوْقَ العَطَبَا
أَنَا إِنْ لَمْ أُحْسِـنِ الرَّمْـيَ وَلَمْ / تَسـتَطِعْ كَفَّايَ تَقْلِيْبَ الظُّبَـا
أَخْدِمُ الجَرْحَـى وَأَقْضِي حَقَّهُم / وَأُوَاسِي فِي الوَغَى مَنْ نُكِبَا
هَكَـذَا المِيْكَــادُو قَـدْ عَلَّمَنَا / أَنْ نَرَى الأَوْطَـانَ أُمًّا وَأَبَا
مَلِـكٌ يَكْفِيْـكَ مِـنْـهُ أَنَّــــهُ / أَنْهَضَ الشَّرْقَ فَهَزَّ المَغرِبا
في تلك السنة الدراسيَّة يا بنيَّتي كانت الأمم المتَّحدة قد قضت بتقسيم فلسطين بين أهلها العرب وبين اليهود القادمين إليها من بلدان العالم كافَّة. وقد قابله رفض أهلِ فلسطين ومعهم الشعوب العربيَّة لهذا الغزو المدعوم من القوى الاستعماريَّة، فقامت حرب غير متكافئة العدَّة والعدد بين العرب واليهود.
هبَّ العرب للدفاع عن أرض فلسطين المقدَّسة بعتاد قديم وبلا خبرة في فنون القتال تقابلهم ميلشيات يهوديَّة جيَّدة التدريب وخبرة قتاليَّة اكتسبوها من مشاركة الحلفاء في معارك الحرب العالميَّة الثانيَّة. وقد ترك لهم المستعمر البريطاني الكثير من عتاده الحربي عند انسحابه من فلسطين ممَّا مكَّنهم من كسب المعركة وإقامة دولة إسرائيل وتشريد الفلسطينيِّين بعد ترويعهم بمذابح جماعيَّة أرغمت معظمهم على الهجرة إلى البلدان المجاورة.
كانت قصيدة حافظ إبراهيم عن فتاة يابانيَّة، تلخِّص فداء الوطن بالغالي والنفيس، وترفع المعنويَّات، وتحيي الآمال في نصر قريب يعيد الحقَّ لأصحابه. ومن يوم سماعي القصيدة وشرح المدِّرس الأدبي والتاريخي الذي لخَّصته القصيدة، واليابان ما برحت فكري ووجداني. وقد تأكَّد ذلك مع مرور الأيام، فازددت إعجابًا بهم وتقديرًا لبسالة شعبها في المقاومة، وتغلُّبه على تداعيات الاستسلام ببنائه اقتصادًا قويًّا بوَّأه مكانة مرموقة بين الأمم.
أذكر في منتصف ستينيَّات القرن العشرين، وزَّعت اليابان على المستهلكين في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة قائمة منتجات عالمية مثل: تليفونكن، كاديلاك، مرسيدس، سوني وغيرها، وطلبت منهم وضع بلد المنشأ إلى جانب اسم المنتج لمعرفة ما إذا كانت المنتجات اليابانيَّة قد حازت ثقة المستهلك في البلدان المتقدِّمة صناعيَّا. كانت الإجابات: تليفونكن, ألمانيَّة، كاديلاك، أمريكيَّة. مرسيدس، ألمانيَّة. سوني، أمريكيَّة. يوم ذاك، أعلنت الجهة المنظِّمة للاستقراء بأنَّ المنتجات اليابانيَّة قد ارتقت إلى درجة الثقة بدلالة أنَّ المستهلك الأمريكي اعتقد بأنَّ منتجات سوني أمريكيَّة المنشأ لجودتها!
هكذا يا بُنيَّتي، لكلِّ مجتهد نصيب. وعلينا الجدُّ والاجتهاد والاستفادة من تجربة اليابان، وممَّا تقِّدمه من جهود من أجل شراكة هادفة ومحقَّقة لتطلُّعات الأجيال القادمة.
وما تزال اليابان حتَّى يومنا هذا البلد المُلهم الذي نتطلَّع للتعلُّم منه والاستفادة من تجربته في البناء وفي السلام. فشبابنا السعودي من الطلبة والدارسين في اليابان بازدياد مستمرِّ. كانوا بالعشرات وأنا على رأس عملي في طوكيو سفيرًا لخادم الحرمين الشريفين، واليوم بالمئات. وأملي أن يرتفع عددهم إلى الآلاف ليتَّفق وحجم التبادل التجاري القائم بين بلدينا.
فاليابان اليوم هي ثاني أكبر شريك تجاري للمملكة، إذ يبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو 45.6 مليار دولار. ويبلغ عدد المشاريع المشتركة في المملكة 24 مشروعًا، يتجاوز تمويلها 11.9 مليار دولار. كلُّ ذلك بفضل المسار الجديد الذي انتهجته اليابان في تقويم سياستها مع دول الخليج العربي، فانتقلت من موقع البائع والمشتري إلى موقع الشريك الاقتصادي المؤثِّر في اقتصاد بلداننا وتنميتها.
انتهت جلسة اليوم بوعد مواصلة الحديث عن اليابان في اللقاء القريب القادم.
محمَّد بشير علي كردي: أديب وسفير سابق للمملكة العربية السعودية في اليابان
بان اورينت نيوز