السياسة في خدمة الاقتصاد: السيد ياماشتا... عملاق الصناعة اليابانية

جدة- الإثنين 19 سبتمبر 2011 /بان اورينت نيوز
بقلم الأديب: محمد بشير علي كردي – خاص لوكالة بان اورينت نيوز

"وَعَدْتَني بالحديث عن ياماشيتا سان (سان تعني السيد باليابانية)، ووعدُ الحُرِّ دينٌّ عليه. أعرفُ أنَّه حصل على امتياز استثمار حقل الخفجي، وأنَّه أوَّل رئيس لجمعيَّة الصداقة اليابانيَّة السعوديَّة، قرأتُ ذلك في مسوَّدة سيرتك الذاتيَّة التي تعدُّها للنشر تحت عنوان: "وللدبلوماسيَّة وجه آخر"، غير أنَّني أودُّ معرفة المزيد عن هذه الشخصيَّة التي أوليتها الكثير من الثناء والتقدير في كتاباتك عن اليابان."

بهذا، افتتحت بُنَيَّتي "حديث العصر" مع فنجان الشاي الذي رغبت أن يكون من الشاي الأخضر الياباني. أجبتها بأنَّ ياماشيتا سان، رائد من روَّاد الصناعة، وخير مَن وظَّف السياسة لخدمة الصناعة والاقتصاد. دفع ببلده اليابان إلى النهوض من كبوتها بعد أن دمَّرت الطائرات الغازية كلَّ مدنها وقراها، وقصفت بالقنابل الذريَّة مدينتي هيروشيما وناغازاكي منهية ما عرف بالحرب العالميَّة الثانية.

بداية صعود نجمه في عالم الصناعة والاستثمار، كان من مقاطعة منشوريا في الصين. آنذاك، كانت منشوريا تحت الحكم الياباني، وكان ياماشيتا سان من عمالقة الصناعة، وعاد إلى اليابان بعد أن خسرت بلاده كلَّ مستعمراتها، وخسر كلَّ استثماراته ليساهم بخبرته في إعادة البناء.

كانت شركة الزيت العربيَّة اليابانيَّة لاستثمار حقل الخفجي من أهمِّ أولى إنجازاته وأكثرها نفعًا للعلاقات العربيَّة اليابانيَّة.

وظَّف في شركته هذه العديد من الشباب اليابانيِّين الذين كانوا قد أرسلوا إلى مصر لتعلُّم اللغة العربيَّة وإتقانها، وليكونوا عينًا لليابان على ما يعدُّه الحلفاء ممثَّلون ببريطانيا مُستعمِرة مصر من خطط لمجابهة دول المحور. عاد هؤلاء الشباب بعد أن خسرت اليابان معركتها العسكريَّة مع الحلفاء ممثَّلين بالولايات المتَّحدة الأمريكيَّة وتوزَّعوا ما بين وزارة الخارجيَّة اليابانيَّة، والشركات الصناعيَّة الكبرى كمتسوبيشي وشركة الزيت العربيَّة اليابانيَّة. وانخرط بعضهم في عالم السياسة والمال. وأنشأوا جمعيَّات "الصداقة العربيَّة اليابانيَّة" و "السعوديَّة اليابانيَّة" و "الكويتيَّة اليابانيَّة".

وكان لهذه الجمعيَّات دور لا يمكن تجاهله في تعريف اليابانيِّين بعالمنا العربي وبالمملكة على وجه التحديد. في ذلك الوقت، لم يكن لدولنا من الإمكانيَّات الماليَّة ما يسمح لها بالتوسُّع في الأنشطة الإعلاميَّة والصرف عليها، فتولَّت جمعيَّات الصداقة تلك هذا الدور إلى أن منَّ الله على بلدنا بعائدات مجزية من تصدير الطاقة إلى بلدان العالم ومن بينها اليابان التي تعتمد اعتمادًا كلِّيًّا على استيراد كلِّ ما تتطلَّبه الصناعة من مواد أوَّليَّة وبترول وغاز، فتولَّت سفاراتنا أمر الإعلام.

من هنا، كانت معرفتي الشخصيَّة بياماشيتا سان، وأنا على أولى درجات السلك الدبلوماسي. فقد كان يحرص على دعوة جميع العاملين في السفارة برفقة رئيس البعثة في المناسبات، وكلَّما كانت هناك شخصيَّة زائرة لليابان لحفل عشاء خاصٍّ في منزله في طوكيو. كان يستقبلنا بترحاب عند باب المنزل، وتستقبلنا زوجته على عتبة المدخل بجلسة أقرب ما تكون إلى جلسة السجود للمتقدِّمين في العمر، وهي مرتدية لباسها الوطني المعروف باسم الكومينو، ثمَّ تصحبنا إلى قاعة الجلوس، ومنها إلى قاعة الطعام.

كان الطبق المفضَّل لدى صاحب الدعوة "ياماشيتا ياكي"، بدلاً من الطبق الياباني المعروف باسم "السوكي ياكي"، قطع من الخضار مع شرائح من اللحم البقري مطبوخة بصلصة الصويا. أمَّا "ياماشيتا ياكي"، شرائح من أجود وأغلى أنواع اللحم البقري المربَّى على "العزِّ" في حظائر اليابان، تطبخ بصلصة الصويا، وتقدَّم مع أوراق الخس.

كنت شاهدًا على نفوذه السياسي حينما حضر معالي السيِّد عمر السقَّاف إلى اليابان في مطلع عام 1964، وكان يومذاك وكيلاً لوزارة الخارجيَّة، حاملا رسالة شخصيَّة من المغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز – (وليُّ العهد آنذاك). حالت أنظمة البروتوكول بين معالي السِّيد عمر ولقاء رئيس الوزراء لتسليمه الرسالة شخصيًّا. فالبروتوكول يشترط المقابلة وفقًا للدرجة الوظيفيَّة، أي وكيل وزارة مع وكيل وزارة.

ما أزال أذكر زيارة ياماشيتا سان السفارة للسلام على معالي السيِّد عمر، فسأله وهو يستقلُّ سيَّارته مغادرًا مبنى السفارة عن موعد تقديم الرسالة، فأجابه بأنَّ الموعد لم يُحدَّد بعد، وأنَّ البروتوكول يقف عائقًا بينه وبين لقاء رئيس الوزراء. إذ ذاك ترجَّل ياشيتا سان من السيَّارة، وعاد إلى مبنى السفارة وطلب أن يتحدَّث بالهاتف. وبلهجة غاضبة مع مَن كان على الطرف الآخر، التفت إلى السيِّد عمر بكلِّ أدبٍ جمٍّ، وطلب منه تحديد الموعد المناسب ليسلِّم الرسالة. وقال بأنَّ السيِّد إيكيدا سان رئيس الوزارة على الطرف الآخر ينتظر جواب السيِّد عمر، وتحديد الموعد المناسب.

وبالفعل، سلَّم السقَّاف رحمه الله الرسالة شخصيًّا لرئيس الوزارة. وهكذا عندما يستمع رجال السياسة لحكمة رجال الصناعة والاقتصاد، تتقدَّم البلاد، ولنا في اليابان خير مثال.

انتهت جلسة الشاي مع بُنيَّتي على أمل لقاء آخر، نتابع فيه الحديث عن السياسة في خدمة الاقتصاد.


محمَّد بشير علي كردي: أديب وسفير سابق للمملكة العربية السعودية في اليابان

بان اورينت نيوز



اليابان والدول العربية