سفر برلك و ``سفر تهلك``!

مدريد – الأحد 27 سبتمبر 2015

بقلم: محمد بشير علي كردي

سألتني بُنَيَّتي عمَّا يُقصدُ بِـ "السفر برلك"، وإذا ما كان في جعبتي من قصص معاناة أهالي ذلك الزمن من الفقر والمعاناة؟

أجبتها بأنَّ السفر برلك تعبير أُطلق على "سياسة التجنيد الإجباري" التي انتهجتها الدولة العثمانيَّة خلال الحرب العالميَّة الأولى، ليجد آلاف من الشبَّان العرب أنفسهم فيها يحاربون على جبهاتٍ في حروب ليست حروبهم، وكان المُرسل إليها في حُكم المفقود، والعائد منها في حُكم المولود ممَّا تسبَّب في خلوِّ البلاد من معظم شبابها القادرين على العمل لتوفير لقمة العيش لأسرهم، فعمَّ الفقر والجوع.

من قصص المعاناة أيَّام "السفر برلك"، قصَّة جدَّتي أم والدتي، ترمَّلت وهي في عزِّ الشباب ولأنَّها لم تكن الزوجة الأُولى، كان نصيبها ونصيب طفلها من الإرث يسيرًا جدًّا. ومن هذا القليل، كانت تصرف على رضيعها الذي فقد أباه.

قارب ما في يدها من مال على النفاد، والمجاعة تحصد الكثير من الأرواح، وما من معين لها ولطفلها إلَّاالله، فمَن بقي من أسرتها بالقرب منها كانوا مشغولين بتدبير لقمة العيش لعائلاتهم. فالزمن الذي رأت فيه النور، كان سنوات شقِّ عصا الطاعة على السلطنة العثمانيَّة من شعوب ولاياتها في البلقان، وكان الفقر والحاجة سيِّد الموقف. وقتها اضطرُّ مَن بقي على قيد الحياة من سكَّان بلاد الشام إلى بيع ما يملكون من أثاث وعقار مقابل قليل من الزيت وأرغفة من الخبز. ومنهم من كان يفتِّش عن بقايا طعام في قمامة بيوت الأغنياء ليقتات منها وأفراد أسرته. وآخرون شاركوا الحيوانات في طعامهم، فاقتاتوا البرسيم والأعشاب التي تنمو في السهول وحول مجارى المياه.

تمرُّ الأيَّام، وينمو طفلها اليتيم، وتكثر متطلَّباته من الغذاء والكساء، فما كان من الأمِّ إلَّا أن نصبت تنوُّرًا خلف باب منزلها، عارضة على جيرانها عجن دقيقهم وخَبزه مقابل أرغفة قليلة، فكان لها ذلك وزيادة. فقد تجمَّع عندها في نهاية كلِّ يوم مِن الأرغفة ما كانت تستبدل بالفائض منها مواد غذائيَّة من بقَّال الحيِّ لتأمين حاجتها وطفلها. وأحيانًا نقودًا قليلة لشراء كسوة ولوازم منزليَّة ضروريَّة.

تمرُّ الأيَّام والشهور والسنوات، وهي تعمل بلا كلل، لا يخفِّف من تعبها إلا تحلُّق جاراتها حولها وهنَّ ينتظرن حصتهنِّ من الأرغفة. وخلال انتظارهن، تتبادل معهنَّ الأحاديث والقصص. فقد أكرمها الله بحضور مشوِّق، وإلقاء جذَّاب، وحفظ للروايات والقصص والحكايات. وبهذا تحوَّل منزلها، وبالأخص الركن المجاور للتنوَّر إلى ملتقًى لقهوة الصباح وشاي العصريَّة. تأتي النسوة بالشاي والبن والسكَّر، وعليها تجهيز الماء الحار. ويتواصل الحديث المكرَّر الذي لا نهاية له. تعجن وتقرِّص وتخبز وهي تتحدَّث مع جاراتها وزبائنها بأسلوبها المميَّز، فتعطيهنَّ متعة التخيُّل بالاستماع لقصص عن ماض كالخيال، ينسيهنَّ ما هنَّ عليه من شظف الحياة، ومن فقد أزواجهنَّ وإخوانهنَّ وأبنائهنَّ في حرب لا ناقة فيها ولا جمل لكلِّ من فقد حياته ومن فقدوا حياة أعزاء عليهم.
ويدور الدولاب دورته بعد قرن كامل من الزمن، وتحلُّ على أهل بلاد الشام من الويلات والمصائب ما دفع معظم سكَّانها لترك مدنهم وقراهم ومزارعهم طلبًا للنجاة بأرواحهم من حكم ظالم، ومن تجَّار الدم والسلاح الذين وظَّفوا الألوف المؤلَّفة من المرتزقة لممارسة القتل على الهويَّة بقطع الرأس أو الحرق بالنار، ولم يكن لهم من طريق سالك إلَّا ركوب البحر الأبيض المتوسِّط على مراكب مطَّاطية تتقاذفها الأمواج العاتية وهم في طريقهم الى شواطئ أوربا، وكثيرًا ما تتقلب بهم المراكب فيصبحوا طعمًا لحيتان البحر.

وعلى الرغم من هذه الكوارث المؤسفة فإن سيل الهجرة عبر مياه البحر لم يتوقَّف وشهيَّة حيتان البحر للحم البشري ازدادت شراهة. أمَّا الذين تمكَّنوا من الرسوِّ على اليابسة فواجهتهم قوَّات خفر السواحل ومراكز الهجرة معيقة تحرُّكهم إلى أن تبتَّ في أمرهم المفوضيَّة السامية للأمم المتَّحدة لشؤون اللاجئين، وترصد الحكومات المستقبلة على مضض المبالغ اللازمة لإعالتهم أو إعادتهم.

وكان للطفل الشهيد إيلان الكردي الذي قذف البحر جثَّته إلى شاطئ تركيٍّ أن وجَّه أنظار العالم إلى بشاعة المأساة التي حلَّت ببلاد الشام، ففتحت الدول الغربيَّة حدودها لمئات الألوف من اللاجئين الذين لا تُرجى عودتهم إلى بلداتهم وأوطانهم التي حلَّ بها الدمار وتمزَّق نسيجها الوطني. والكارثة الإنسانيَّة هذه التي حلَّت ببلاد الشام لا تقلُّ بشاعة عن كوارث السفر برلك إن لم تكن أقسى منها وتستحقُّ تسميتها " سفر تهلك ".

محمَّد بشير علي كردي سفير المملكة العربية السعودية سابقاً في اليابان



رأي