كلام في الحب وأشياءِ أُخر: الشاعر والكاتب فاروق جويدة يتحدث إلى الفاتح ميرغني

"لا احب لفظ الشعر السياسي ... انا اريد ان أسميه الشعر الوطني لانه الأصدق"

القاهرة 2014 - خاص إلى وكالة بان اورينت نيوز

تنفرد بان اورينت نيوز بإجراء حوار حصري أجراه الزميل الفاتح ميرغني في القاهرة مع الشاعر والكاتب المصري فاروق جويدة رئيس تحرير القسم الثقافي في صحيفة الأهرام المصرية. وننشر المقابلة على ثلاث حلقات، وفيما يلي الحلقة الأولى.

الفاتح ميرغني: "في كل عام كنت احمل زهرة مشتاقة تهفو إليك .. في كل عام كنت اقطف بعض ايامي وانثرها عبيرا في يديك.. في كل عام كانت الاحلام بستانا يزين مقلتي ومقلتيك.. في كل عام كنتَ ترحل يا حبيبي في دمي وتدور ثم تدور .. ثم تعود في قلبي لتسكن شاطئيك"... قلتُ للاستاذ فاروق جويدة ونحن جلوسا في مكتبه الوثير في مبنى صحيفة الاهرام: "أنا سعيد جدا بلقائك وإجراء حوار معك. وكنت قد اخترت "عذراً حبيبي" لتكون عنوانا لهذا الحوار، ولكنني وجدت نفسي سأحاور شخصية شاملة- شاعرا وكاتبا وسياسيا- وفوق هذا وذاك، شخصية ذات تنشئة دينية، وازنَتْ بين ما هو ديني مقدس وما هو دنيوي إبداعي بصورة خلاًقة، عبّر عنها الناقد الراحل رجاء النقاش بمقولة: "من بيت الدين خرج شاعر الحب والعاشقين". لذا قدًرتُ أن عنوانا مثل: "كلام في الحب واشياء أُخر" قد يتيح لنا مساحة أكثر رحابة.

فاروق جويدة: شكراً استاذ الفاتح على هذه المقدمة الجميلة. ويسعدني ويشرفني جدا أن التقيك وأن أدلي لك بحوار صحفي. ولا اخفيك سراً إن قلت لك بأنني، وخلال الخمس سنوات الماضية، لم أدلِِ بحوار صحفي، لا لجرائد عربية ولا لجرائد مصرية.

الفاتح ميرغني: كانت "نونية إبن زيدون" أول قصيدة تلقيها في وداع استاذ التاريخ، وكنتَ تبلغ من العمر آنذاك أحد عشر عاما. ما هي أول قصيدة الفتها، وما هي مناسبتها؟

فاروق جويدة: اذكر اننا في المرحلة الثانوية كان لدينا برنامجا يسمى "أوائل الطلبة". وكانت هناك مسابقة بين مجموعتنا ومجموعة أخرى. وفي الآخر خالص كنا مغلوبين بنصف نقطة، لان الإخوة من السياق العلمي لم يوفقوا في الإجابات كلها، وكنت الوحيد في المجموعة من القسم الادبي، وعندما جاء دوري القيت القصيدة، وفزنا بثلاثة ارباع نقطة. وكانت تلك هي المرة الاولى التي احسست فيها بأن الشعر ممكن يكون منطقة تميًز غير المذاكرة. المهم بعدما فزنا بنتيجة المسابقة، أعلن الناظر في اللقاء الصباحي في اليوم التالي بأن القصيدة التي القيتها كانت سببا في الفوز وقدم لي هدية. انا فاكر منها ابيات تقول: " ضاع الهوى وستبقى لي ذكراكِ... سأظل احيا دائما لهواكِ...عصفت بنا الايام بعد محبة... دامت سنينا في سماء بهاكِ... وتنسي قلبا طالما اشجاكِ... وسقاك من كأس الهوي فرواكِ ".

الفاتح ميرغني: بداية مبشًرة بميلاد كوكب شعري. يقال أن القصيدة الاولى عادة ما تنطبع في وجدان الشاعر، مثل الوشم. هل تم نشرها في اي من دواوينك؟

فاروق جويدة: لا لم يتم نشرها. ويمكن عندي قصائد كثيرة لم انشرها ورفضت اني انشرها، تقريبا بداياتي كلها في عشرة سنوات لم انشرها، ولم يطاوعني قلبي على التخلص منها. وأوصيت اولادي بألا ينشروها، إذا ما يوماً طلب ناشرٌ منهم ذلك. وقال لي البعض ان اعدًل فيها وانشرها، ولكن بسبب تداخل المراحل. وانا مرات اقرأ قصيدة كتبتها قبل ثلاثين سنة واتمنى ان اعدل فيها، ولكنني لا استطيع، فليس من حقي ان افعل ذلك. فأنا لا أؤمن بتداخل المراحل في عمر القصيدة. فالقصيدة إبنة عصرها وزمنها ولحظتها، وإذا دخلت زمناً آخر تصبح غريبة، على الاقل بالنسبة لي.

الفاتح ميرغني: لو لم يكتب فاروق جويدة سوى "عذرا حبيبي" لتربًع، كما يقول محبوه ومعجبوه، على عرش المدرسة الرومانسية. ولكن فضلا عن ذلك كتب الاستاذ فاروق جويدة قصائدَ سياسية قوية منها، على سبيل المثال، "إغضب"، التي اصبحت شعارا لثورة اليمن، و"بغداد لا تتألمي" وقصائد أخرى كثيرة عن القدس والقضية الفلسطينية. فأين يجد فاروق جويدة نفسه؟ أفي القصيدة الرومانسية ام في القصيدة السياسية ؟

فاروق جويدة: انا لا احب لفظ الشعر السياسي. انا اريد ان أسميه الشعر الوطني لانه الأصدق . لأنني حينما كنت اكتب في السياسة كنت اكتب للوطن. والوطن عندي ليس مصر فقط ولكن هو الانسان العربي في اي مكان. لأنني،على المستوى الشخصي،أعتبر العالم العربي كله وطنا واحدا مزقته الصراعات ومؤامرات الاعداء. ولكن حقيقة الامر، ليس هناك مكان في العالم تجمعه لغة واحدة، وتاريخ واحد، ودين واحد، وتداخل عرقي وانساني بمثل الوطن العربي. انا بقدر اسميه " شِعري الوطني" وقد كتبته من منطلق حب ايضا. لانني اعتقد أن الجذور واحدة. وعندما كنت اغني للحبيبة كنت اغني للوطن ايضا والعكس صحيح. هذا التداخل في شِعري اعطى تجربتي شيئا من الخصوصية. وقليلا ما تجد ذلك عند شاعر آخر. فمحمود درويش ، مثلا، كان شاعر قضية، فالقضية في شعره واضحة جدا. " نزار قباني" اشعاره تمحورت حول المرأة. وانا أعتقد ان الشعر كله شعر حب ولا ينبغي ان يكون لغير الحب، سواء كان سياسي او قضية . يعني هناك خيط رفيع يجمع بين كل هذه الاشياء وهو الحب . وفي تصوري، شعر بلا حب، يفقد الكثير جدا، بما في ذلك شعر الفخر في التاريخ العربي، وشعر الفروسية والرثاء وإن كان الرثاء فيه شيء من الحب. لكن الهجاء لا يدخل فيه الحب، وهذا استنزف جزء كبير جدا من الشعر العربي. الفخر يكون ابعد عن الحقيقة والهجاء ايضا ابعد عن الحقيقة والحب هو الحقيقة.

الفاتح ميرغني: كان صديقك الراحل محمد عبدالوهاب لا يفضل أغنية بعينها من اغانيه، حيث كان يقول: " كل أغنياتي هم ابنائي وبناتي". هل ينتاب الاستاذ فاروق جويدة ذات الإحساس بالنسبة لقصائده؟ أم أن هناك قصيدة معينة، رسخت في وجدانه، ومن ثم اضحت مقربة إلى قلبه أو مدللة أكثر من الأخريات؟

فاروق جويدة: الجمهور هو الذي دلل قصائدي وجعلني بالضرورة ادللها. هناك قصائد، على المستوى الشخصي، احبها ولكن قد لا تكون نالت حظا كبيرا عند الجمهور. يعني مثلا "في عينيك عنواني". أخذت حظا كبيرا في الانتشار. هذا الديوان طٌبع منه مئات الآلاف من النُسخ على امتداد ثلاثين او خمسة وثلاثين سنة.. و "لا أنتِ أنتِ ولا الزمان هو الزمان" و "عذرا حبيبي" القصيدة القصيرة المركًزة جدا. هناك مثلا قصائد اخرى احبها جدا مثل: "وضاعت ملامح وجهي القديم واصبح وجهي على كل شيء رسوما رسوم"، احبها جدا. واذكر أن شوقي ضيف، رحمة الله عليه، هاتفني في الصبح بعد ما قرأها في الأهرام. وهناك قصيدة أُخرى وهي "عمي فرج: ماذا اصابك يا وطن؟". وكنت كتبتها على ضحايا سالم اكسبرس. هاتفني في ذلك اليوم الدكتور زكي نجيب محمود وهاتفني ايضا الفنان عادل امام يوم ما تم نشرها في الأهرام. قال لي زكي نجيب محمود: "لقد ابكيتني وانا في هذه السن". مثلا، "محمد عبدالوهاب" كان يحب قصيدة اخرى غير "في عينيك عنواني" ألا وهي: "ويمضي العمر يا عمري واشعر ان في الايام يوماً سوف يجمعنا.. فقد القاكِ في سفر وقد القاك في غربة.. كلانا عاش مشتاقا.. وعاند في الهوى قلبه". كنا بعض الاحيان نجلس مع بعض وكان عبدالوهاب يدندن بالعود وانا كنت اقول شعراً، ومرات كنت اقول مقاطع من قصائد كوكتيل.

الفاتح ميرغني: ماذا عن القصائد السياسية؟

فاروق جويدة: في القصائد السياسية كنت احب جدا قصيدة "ملعون يا سيف أخي". وكنت قد كتبتها عندما طلب الفلسطينيون فتوى باكل لحوم الاطفال وهم محاصرين في لبنان. وهناك قصائد مثل "باريس".

الفاتح ميرغني: كشفت الاوراق الخاصة التي نشرتها عن صديقك الراحل "محمد عبد الوهاب" عن جوانب كثيرة ومدهشة لم تكن معروفة أو واضحة المعالم في شخصيته. هل تدخلت بإعادة الصياغة، كما يزعم البعض، أم اكتفيت بالتقديم فقط وجعلت الاوراق تشرح ذاتها بتدفق؟

فاروق جويدة: اوراق عبد الوهاب كانت فرصة إضافية ان اعيش مع عبد الوهاب كل سنوات عمره بعد ان ظلت صداقتنا مستمرة اكثر من عشرين عاما .. كانت اوراقه الخاصة التى أوصى ارملته بأن تسلمها لى من امتع اللحظات التى عشتها، قبل ان اقدمها للناس فى كتاب: "رحلتي - الاوراق الخاصة جدا لمحمد عبدالوهاب"..

الفاتح ميرغني: لحن الراحل عبدالوهاب أحد قصائدك وهي "في عينيك عنواني" ولكن المنية لم تمهله لإكمالها فأكملها محمد الموجي. هل تشعر بالرضا عن ذلك اللحن؟ أم أن هناك فرق ما بين لمسات الموسيقار "محمد الموجي" و"محمد عبدالوهاب"؟

فاروق جويدة: كان من حظى ان يجتمع " عبد الوهاب" و"الموجى" معا ويشتركان فى تلحين قصيدتي فى "عينيك عنوانى" وهو حدث فريد فى تاريخ الموسيقى العربية وتاريخ اثنين من كبار الملحنين.


الفاتح ميرغني: الاستاذ "فاروق جويدة" والاستاذ "احمد عبدالمعطي حجازي" متهمان بالقسوة المفرطة على قصيدة النثر. لماذا يا ترى؟

فاروق جويدة: أنا لست قاسياً على قصيدة النثر، ولكن هناك بعض الزوابع التي تأتي في لحظة إعصار فتربك المشهد. وانا اعتقد بأن الثقافة العربية تعيش محنة حقيقية، وتعاني من منزلق خطير جداً امام اعاصير قادمة. وانا في هذه الحالة ماذا افعل؟ ابحث عن شيء اتحصن فيه من العاصفة حتى لا تجتاحني. انا اعتقد بأن قصيدة النثر بدأت كمشروع، ولكنها سمحت لكثيرين جدا من الدخلاء بالتسلل إليها. بحيث انها اصبحت شيئاً غامضاً، لا قواعد له. ولا يوجد فن بلا قواعد. اللون يتم تركيبه مع اللون بقواعد، الكون اتشكل نفسه في ظل قواعد. فأنت لا تستطيع ان تكسر هذا الناموس. بناء عليه، انت لا بد ان تراعي كل شيء قادم. انا لست ضد الجديد لكن انا ضد الإقتحام غير المبرر. وهذا اعطى مجالات لاعاصير اوسع ومحاولات تكسير وهدم. انا لا ارى خصومة على الاطلاق بين الشعر وبين اي شكل من اشكال التجديد. لا ارى ذلك وليس هناك تعارض على الإطلاق. لكن انا بحكم انتمائي للثقافة العربية وبحكم تكويني الشِعري، اشعر انني انتمي إلى شكل يختلف. وكنت اتمنى الا تدخل قصيدة النثر في هذا العداء مع التراث.هم الذين بدأوا بالعداء.

الفاتح ميرغني: ماذا عن موقف الاستاذ فاروق جويدة الشخصي؟

فاروق جويدة: عن موقفي الشخصي فأنا احب شعر محمد الماغوط. واعترف إنه شاعر كبير. اختلف مع شعر ادونيس. وانا أرى ان ادونيس مُنَظَِر عظيم ومفكر من الوزن الثقيل. ولكنه حينما اقحَمَ الفكر في الشعر بهذه الضراوة وهذه القوة أفقَدَ الشعرَ الكثير من روحه وبساطته. ادونيس ايضا كان مغريا بالنسبة للشباب فلم يرحموه ولم يرحمهم. هو دفع بمواهب كبيرة جدا ورائه. ومنهم من تخبًط لافتقاده لقدرة ومرجعيات ورؤية ادونيس، حيث تصوَرَ ان هذا هو السهل، فخاض التجربة وفشل. يعني انا حين اقارن بين تجربة الماغوط وتجربة ادونيس، وكان بينهما خلاف كبير، انا اتصور ان مشروع الماغوط كان اكثر ايجابية بالنسبة لقصيدة النثر. كما وان ادونيس دخل في معارك اخرى مع الثوابت ومع المتحول وحاول يكسر أشياء كثيرة فنجح في البعض ولم يوفق في البعض الآخر.

الفاتح ميرغني: لكن انصار المدرسة النثرية يقولون أنهم الأكثر تواجدا أو مبيعا في المكتبات ودور النشر، وأن هذا الإنتشار دليل قبول.

فاروق جويدة: ليس صحيح. رغم انني الأكثر مبيعا ولكن هذا ليس معياراً. انا شهرتي جاءت من المادة التي اكتبها والكتاب. انا لست شاعر قصيدة مغناة مثل "نزار". هو كان اكثر حظا مني في القصيدة المغناة حيث غنى له عبدالحليم حافظ، رغم اني تغنى لي " كاظم الساهر" و "سمية قيصر" و"سميرة سعيد". انا اعتقد بأن هناك فجوة، حتى الآن، ما بين قصيدة النثر وما بين القارئ العربي. فهي لم تستطع التسلل إلى وجدان القارئ العربي. وانا ليس لدي استعداد أن اضحي باللغة. هذا جانب. الجانب الثاني، كيف لي في الشعر ان اضحي بالموسيقى وتجانس اللغة؟. وبمثلما الخلايا البشرية تلتئم مع بعضها وتصنع الكائن البشري، وبمثلما يتشكل المولود في رحم امه، هكذا تتشكل القصيدة، أجزاء فأجزاء فأجزاء لتصنع الكل. أما ان اجعلها في حالة عداء مع بعضها، أي حينما تدخل اللغة في عداء مع مكوناتها وعناصرها، فهذا دليل فشل.

الفاتح ميرغني: كيف يكتب الأستاذ فاروق جويدة القصيدة؟ هل يعيش طقوسا معينة عند كتابة الشعر؟

فاروق جويدة: حين اشعر أن الشعر قادم أكون في شرف إستقباله بكل جوارحي وكل شيء. استشعرُ قدومه وعليه ألبس اجمل ملابسي واتعطر فأنا اكون في استقبال معشوقة أو حبيبة في لحظة عشق. اما كيف تأتي وما هو موضوعها؟ وماذا ستقول؟، وما هو الخاطر الذي سوف يأتي؟ هذا ماليس لي به علم. لكن عندما انظر اجد وميضاً من الأضواء قد تدافعت حولي، بعضها خافت وبعضها قوي. فالذي يستطع ان يقتحمني هو الذي يفوز باللحظة، جائز جدا شتات افكار، لكن هناك فكرة تتبلور. وهذه تشكل هيكل ومحور القصيدة. وتبدأ بعد ذلك مرحلة "الشخبطة"، كتابة بيت او شطرة او مطلع أو أجد بيتا من الممكن ان يكون نهايتها. وهنا تبدأ مرحلة لملمة القصيدة، أي بلورتها كفكرة . يعني ممكن ألاقي بيت، فاكتبه وبعد بيتين أو ثلاثة اقول هذا البيت ينفع يكون قفلة القصيدة. اما عن طقوس الكتابة، فأنا لا اكتب إلا بالحبر الأسود ولا اكتب بأى حبر آخر. طول عمري أكتب القصيدة على ورق ابيض، واكتب المقال الصحفي على ورق مسطَر.

الفاتح ميرغني: هنا ايضا أراك تختلف عن صديقك "نزار" الذي كان يكتب القصيدة على ورق ملون.

فاروق جويدة: انا اكتب على ورق ابيض لانني ممكن ان اشرد في هذه الورقة، اما بالنسبة للمقال الصحفي، فهو مرتبط بعدد الكلمات.. وأعرف أن المساحة، والموضوع نفسه، يكون مرتباً سلفاً. وبعد ما انتهي من القصيدة.. انا ممكن اكتب القصيدة ثلاثة او اربع مرات حتى الآن. أو أن اضيف أو احذف أو اقطًعها. وعندي هذه الجرأة. احيانا يشدني حنين إلى إحدى قصائدي حيث أجد نفسي، من غير ما اشعر، قد استنسختها، فاقوم بتمزيقها بمنتهى الجرأة لأن الاصل موجود حاستنسخ ليه؟ وبعدين اكرر نفسي، والناس تقول: "يا خبر فاروق جويدة يكرر نفسه وهذا افلاس"! .ثم في النهاية حتبقى بالنسبة لي درجة ثانية وانا لا احب الدرجة الثانية.

الفاتح ميرغني: ماذا عن العنوان وكيف تختاره؟

فاروق جويدة: العنوان عبارة عن طلة او شطرة من القصيد تقول لك: " انا العنوان".

الفاتح ميرغني: كم يستغرق منك كتابة القصيدة؟ يعني مثلا "عذرا حبيبي"؟

فاروق جويدة: لا.. "عذرا حبيبي" دي كتبت نفسها. هناك قصائد عبارة عن دفقة او تكون مثل وردة فتحت وعطرها فاح وخلاص.

الفاتح ميرغني: وماذا عن القصائد الأخرى؟

فاروق جويدة: هناك قصائد مركبة وهذه تتم كتابتها على كذا جلسة، وبعدًل فيها وبشغًل فكري احيانا مش عواطفي فقط. وهناك القصيدة التي فيها شحنة عاطفية، وهذه تكون عبارة عن دفقة. وهناك القصيدة التي فيها جزء كبير جدا من رؤيتي ومواقفي وفكري. يعني مثلاً، قصيدة بوش، "ارحل وعارك في يديك" جهزتُها له قبل سنة، وكنت أريد أن اودعه بها وبصوت 300 مليون عربي، ولذلك أذيعت في التلفزيونات العربية، وكنت سعيداً جداً، كما وأن الـ CNN بثت منها جزءاً وعرضت صورته (بوش) وهو يتأهب لركوب الطائرة إلى تكساس.

الفاتح ميرغني: تغنى بقصائدك عدد من المبدعين في العالم العربي. تغنى "كاظم الساهر" بقصيدة "لو اننا لم نفترق.. من قال أن النفط أغلى من دمي". وتغنت "سمية قيصر" بقصيدة "في عينيك عنواني". كما تغنت "عقد الجلاد" بقصيدة "عذرا حبيبي". ما هو رأيك في اداء الذين تغنوا بقصائدك؟.

فاروق جويدة: كانت تجربتى مع "سمية قيصر" تجربة جيدة وان كانت قد اعتزلت بعدها .. وكانت تجربة "عذرا حبيبي" مع فرقة " عقد الجلاد" من أنجح التجارب، وقد شاهدت بنفسى صدى هذه القصيدة حين زرت السودان فى 2004 حيث كانت على كل لسان، ولا ادرى اين ذهبت هذه المجموعة من الشباب الرائع.

الفاتح ميرغني: إلى من يحب أن يستمع "فاروق جويدة" عندما يُلقي الليل سدله وتتزين السماء بالأنجم؟

فاروق جويدة: احب فى الغناء "ام كلثوم و"ليلى مراد" و"فيروز" و"عبد الوهاب" و"عبد الحليم" و"فريد الأطرش" و صوت " السنباطى" يطربنى كثيرا.


الفاتح ميرغني: هل هناك قصيدة تمنيت ان يغنيها فنان او فنانة ؟

فاروق جويدة: تمنيت ان يغنى "عبد الحليم حافظ" قصيدتى "عندما ننتظر القطار" وقد بدأ "محمد عبد الوهاب" فى تلحينها، ولكن رحيل "عبد الحليم" انهى كل شئ ..

الفاتح ميرغني: شاعر وفنان نالا اعجابك.

فاروق جويدة: احببت فى الشعر رفقة "ابن زيدون" وظهر هذا الحب فى مسرحيتى "الوزير العاشق". اما الفنان الذى احببتُه فناً وانساناً فهو "محمد عبد الوهاب"... كان اسطورة إنسانية جميلة ورائعة.

الفاتح ميرغني: ذكرتَ ذات مرة أن تجربة المسرح الشعري في العالم العربي تعتبر هي الأضعف.

فاروق جويدة: طبعا هي الاضعف. أنا سألتُ "البياتي" مرة وسألتُ "نزار" هذا السؤال. "البياتى" قال لي: "لم اجد نفسى فى المسرح" اما "نزار" فقال: "هى تجربة لم احاول الإقتراب منها ".

الفاتح ميرغني: ولكنك خضْتَ غمارَ التجربة بمسرحية "الوزير العاشق"!

فاروق جويدة: انا خضتُ التجربة وانا في نهاية الثلاثينات. كنت صغير سنا. وخضت التجربة لسبب انني شعرت أن القصيدة الغنائية ضاقت بي وانا ضقت بها. ولا بد ان تحدث لحظة فراق مؤقت. وكانت القصيدة الدرامية دخلت عليها سيطرة ما. فالدراما دخلت عندي في الشعر في قصائد كثيرة جدا، حوارية وفيها اكثر من صوت وفيها تاريخ. فرأيتُ ان اغامرَ في المسرح. وكان تقديري الآتي: قلت إذا فشلتْ تجربتي مع "الوزير العاشق"، سيقال "شابٌ يُغامرْ وفرصه اوسع في المستقبل". وإذا نجحتْ كان بها. ففاجاتني "الوزير العاشق" إذ حققت نجاحا مذهلاً. واصبحتْ من تراث المسرح الشعري، لدرجة أن كُتب عنها في الصحافة الاجنبية 120 مقالة، وكان هناك رسالة ماجستير عنها في جامعة مدريد. لقد نجحتْ الوزير العاشق وفأجأتني بنجاحها. أولا، لا أنكر بأن "عبدالله غيث" و"سميحة ايوب" كانا من عوامل النجاح. وكان عبدالله غيث قد عاد إلى المسرح بعد انقطاع دام لأكثر من إحدى عشرة سنة. وهذا كان من حسن حظي ومن حسن حظ المسرحية. وقد استقبلها المسرح المصري بشغف ولهفة. لان مسرح القطاع الخاص كان قد اجتاح كل حاجة في ذلك الوقت، وكانت "الوزير العاشق" تجربة مثيرة تميزت بشعر، إلى حد ما، ناعم، وتجربة انسانية فظيعة جدا: ولادة وإبن زيدون، والاندلس والجُرح القديم. وأنا اذكر عندما عُرضت في المغرب العربي، وتحديدا في اوبرا الجزائر، كانت الناس تبكي، خاصة عندما كان "عبدالله قيس" يقول: "ماذا نقول حينما تتكسر الصلوات في ارجاء مسجدنا الحزين ..انقول بعنا الارض؟ ..انقول خنا العهد؟ الارض ليست ملك جيل يستبيح الصبح في ارجائها .. ويبيع فيها ما يبيع وليس يساله احد.. ..ستجيء اجيال واجيال.. تحاسبنا وتصرخ في ظلام قبورنا ..لم تتركوا شيئا لنا لم تتركو شيئا لنا". هل تعلم بأن هناك عائلات في المغرب العربي مازالت تحتفظ بمفاتيح بيوتها في الاندلس وأن هذه المفاتيح تورث جيلاً بعد جيل حتى الآن ؟

الفاتح ميرغني: موضوع المفاتيح هذا أمر مدهش. ولكن الذي اعرفه هو أن المغرب العربي كان بمثابة منصة إطلاق لفتح الأندلس، كما كان مركزا لتضميد جراح العائدين بعد السقوط والإنكسار الذي جَسدتْه "عائشة الحرة" في مقولة: "ابك كالنساء على ملك لم تستطع الدفاع عنه كالرجال". إلى جانب الوزير العاشق كتبت "دماء على استار الكعبة" و"الخديوي". فلماذا حوربت مسرحية الخديوي؟

فاروق جويدة: الخديوي كانت في تلك الأيام تعكس نظرة مستقبلية، وكأنني كنت اقرأ المستقبل: صراع الدين والسياسة من خلال شخصية "جمال الدين الأفغاني"، والعلاقة مع الغرب والديون من خلال شخصية "الخديوي اسماعيل"، وبيع اصول العالم العربي وثوابته وو..إلخ. من خلال التدخل الاجنبي وتداخل البنوك والسيطرة على اقتصاديات العالم العربي، والانبهار الشديد بالغرب، والانبهار الشديد بالماضي وما بينهما لا تجد المنطقة الوسط، بحيث انك تستفيد من الغرب وتأخذ منه ما تريد، وفي ذات الوقت تحافظ على الثوابت. المعادلة دي كانت في "الخديوي". دخل فيها صدامي مع السلطة. في ذاك الوقت كنت في حالة صدام مع السلطة، عندما زعموا أنني أتنبأ ببيع مصر وبيع القطاع العام وبيع اصول الدولة وبيع وبيع وبيع...إلخ.

الفاتح ميرغني : هل كان التشابه بين عصر مبارك وعصر الخديوي متجليا في المسرحية، لدرجة إثارة هذه المزاعم؟

فاروق جويدة: هو ده الطعن الذي حصل في المسرحية. وهو انني اقصد موضوع بيع مصر. وهذا كان قبل الخصخصة، وقبل بيع القطاع العام وبيع الاراضي. المسرحية طلعت في المسرح في اوائل التسعينات وعُرضت 100 ليلة عرض. وكان فيها محمود ياسين وسميحة ايوب وجلال الشرقاوي و15 لحن لمحمد الموجي و25 فرقة روسية بمناسبة افتتاح الاوبرا، (اوبرا عايدة). طبعا لم يستطعوا منعها. وسبق وأن منعوا من قبل "دماء على استار الكعبة" و"الوزير العاشق" وموضوع ضياع الأندلس. وبالنسبة لتجاربي في المسرح، ليس لدي مسرحية مرت بأمان الله. أنا قارئ للتاريخ. وإذا كنت انا عاشق للشعر في جانب وجداني، فأنا عاشق للتاريخ في جانب اخر. وانا أعتقد بأن هذا امر مهم للشاعر والمثقف بصفة عامة، لأن التاريخ شيء مهم جدا واساس يمكن ان تنطلق منه. وللاسف الشديد ان الناس عندما شاهدت مسرحية "الخديوي" بعد 18 سنة من المنع، قالوا "هذا الرجل كان يتنبأ" .

الفاتح ميرغني: على المستوى الشخصي هل كنت تقصد الرئيس "مبارك"؟

فاروق جويدة: انا لم اكن اقصد "مبارك" كشخص، ولكن كنت اقصد تشابه العصر، وهو تشابه في كثير من الامور: العلاقة مع الغرب، وصراع الدين والسياسة، وسطوة الاسلام السياسي واستخدامه كفزاعة للشعوب وفزاعة للغرب. وهذا هو ما ركزتُ عليه في المسرحية. ثم بيع القطاع العام وهذه جريمة لا اغتفرها لعصر "مبارك" على الإطلاق، لان أصول الدولة المصرية والمشاريع بيعت بابخس الاثمان لمجموعة اشخاص. ومع ذلك أرى أن خروج "الخديوي اسماعيل" من السلطة كان مشرفا بالمقارنة مع خروج "مبارك ". " مبارك" خُلع ولكن "الخديوي اسماعيل" رفض: رفض صندوق الدين، ورفض الخضوع، وكان عنده القدرة على الممانعة. فتم نفيه وانسحب من المشهد وعاش حياته.

الصورة: عدسة الأهرام
فاروق جويدة: رئيس القسم الثقافي بصحيفة الأهرام
الفاتح ميرغني: رئيس تحرير مجلة وورلد لنكس سابقا في طوكيو

الحقوق الحصرية إلى وكالة بان اورينت نيوز



لقاء خاص