بلوغُ الأماني بعد التهاني!

بقلم محمَّد بشير علي كردي

مدريد 10 أغسطس 2013

ما أن انتهى شهر الصيام، شهر الإمساك عن الطعام والشراب وعن الجدال واللغو في الكلام من الفجر إلى الغروب، حتَّى نعمنا بفضل اللهِ بالعيد السعيد. بعد التهاني وحمد الله على انقضائه بالخير والسلامة والقبول بإذن الله، بالصوتِ والصورة"، من الأهل والمعارف والأصدقاء، عاتبني بعضهم لغيابي الطويل عن الوطن، وفي شهر رمضان خاصَّة. ففي هذا الشهر الفضيل، يصبحُ منزل كبير العائلة مجمعًا لأفراد الأسرة كافَّة، ليتجدَّد التوادُّ والتواصل، لا سيَّما مع المقيمين خارج المدينة المنوَّرة، مترقِّبين العشر الأخير من رمضان استعدادًا لأيَّام عيد الفطر ليجتمع الأهل والأصحاب مباركين ومهنِّئين.

أثار ابتعادي عن الكتابة عن هموم الوطن استغراب بعضهم، وتساءَل عن سبب تركيزي على هموم دول الجوار، وإشادتي المتكرَّرة بخصال اليابانيِّين في سلوكهم وأخلاقهم التي تتطابق وروح الإسلام مع أنَّهم لا يدينون به ما خلا قلَّة ضئيلة من السكَّان، وغالبيَّتهم من أصول غير يابانيَّة! وعلَّق آخر بمحبَّةٍ مُداعبًا، بأنَّ العمل الدبلوماسي يغسل الدماغ، فيبعد صاحبه عن وطنه وعن هموم مواطنيه.

لا جَرَمَ أنَّني آسفٌ وحزينٌ لإضاعتي فرص مشاركتهم الإفطار في الحرم النبويِّ الشريف بضيافة رسولنا الكريم، ومصاحبتهم لأداء الصلوات التي تتوزَّع ما بين الحرم النبوي الشريف ومسجد قباء، ولقاء العائلة وجلسات الإخوة والأصحاب، ومجلس الخميس الذي كان يجمعني بعدد من أعيانِ مدينتا المنوَّرة، وعلمائها ومفكِّريها. لكن نحن نريد والله يفعلُ ما يريد. فقد حال ظرف خارج عن إرادتي هذه السنة بيني وبين مغادرة وطن الغربة إلى الوطن الحبيب الذي لا يغيب عن البال لحظة. ومع كلِّ صلاة، ينقلني إلى ربوع الوطن ومجالس الأهل والصحب.

أمَّا عن الابتعاد عن مناقشة هموم الوطن، فهو غير دقيق. انشغالي بهموم شعوب الجوار ما هو إلا لحماية بلدنا من لهب الفتن والصراع الدائر هناك، وتؤجُّج ناره من وراء ستار الدولة التي زُرعت في مفصل لقاء برِّ الشام وبرِّ مصر لتتحكَّم في عقدة لقاء القارات الثلاث خدمة للدولة المتحكِّمة في اقتصاد العالم للهيمنة على مصادر الطاقة واحتكار نتاج جهد سكَّان العالم وتعبهم وعرقهم. تفتعل الأزمات الاقتصاديَّة بإيقاد الفتن الطائفيَّة والعرقيَّة في كلِّ دولة من دول عالمينا العربي والاسلامي. تفتعل ذلك لحساب الذين يسعون لإعادة عقارب التاريخ للوراء ونبش جثثٍ متعفِّنة من قبورها لإحياء الدولة الصفويَّة الفاطميَّة والخلافة. ناهيك عن أنَّ دول الجوار هي امتداد طبيعي جفرافيًّا وبشريًّا وحضاريًّا لبلدنا، وأمنهم أمنٌ لبلدنا، ومشاركتنا إيَّاهم في إطفاء الحريق هو واجب الأخ تجاه أخيه والجار تجاه جاره.

أمَّا الاستشهاد الدائم باليابان وسلوك أهله، فقد أمضيت بينهم قرابة عشر سنوات على مرحلتين يفصل بينهما ثلاثون عامًا، فكانت كافية للتعرُّف إلى قوَّة عزيمتهم وولائهم لبلدهم والعمل على جعلها في المقام الأوَّل بين الأمم، متخطِّين هجمات الدول الاستعماريَّة وما سبَّبته لبلدهم من خراب ودمار شمل كلَّ المدن والأرياف، كان آخره ما حلَّ بمدينتي هيروشيما وناغازاكي بعد ضربهما بالسلاح الذري، واستسلام جيش اليابان لجيوش الحلفاء.

اليابان كما هو معروف، فتحت أبوابها للعالم في عصر إمبراطورها المصلح ميجي الذي حكم اليابان من عام 1867 الى عام 1912، ونقلها من عصر الانكفاء على نفسها داخل الجزر إلى العالم الواسع، وأرسل شباب اليابان إلى الدول المتقدِّمة صناعيًّا وحضاريًّا لاكتساب المعرفة أوَّلا، ومن ثمَّ المنافسة، فكان لليابان ما خطَّط له إمبراطورها ميجي.

بنظرة سريعة على تاريخ عصر الإمبراطور ميجي، وتاريخ قيام دولتنا على يد المغفور له الملك عبد العزيز طيَّب الله ثراه، وإلى رغبة كلٍّ منهما في بناء دولة عصريَّة تحافظ على قيم الأمَّة وتراثها، نجد تشابهًا في تطلُّعات الزعيمين وتقاربًا زمنيًّا في بدء مسيرة بناء الدولة العصرية. وكنت وما أزال أتمنَّى أن نحقِّق من الأهداف ما حقَّقه اليابانيُّون، وما وصلوا إليه من تقدُّم في العلوم والمعرفة مع المحافظة على قيمهم وتراثهم. وما أزال أعلِّق كثيرًا من الأمال على شبابنا الذيين استفادوا من برنامج خادم الحرمين الشريفين، واختاروا اليابان لاكتساب العلم والمعرفة، وهم ولله الحمد بالمئات، وعساهم يصلون في المستقبل القريب إلى الآلاف بفضل الجهود التي يبذلها سفير خادم الحرمين الشريفين لدى اليابان، وملحقنا التعليمي هناك الذي أنعم الله عليه بالغيرة والحميَّة على الوطن، وبحسن الإدارة، وكسب ثقة أولي الأمر، وتعاون مراكز الإشعاع العلمي في اليابان والدول المجاورة لها.

محمَّد بشير علي كردي سفير المملكة العربية السعودية سابقاً في اليابان



رأي